
مع سقوط النظام المخلوع وتحول السوق إلى اقتصاد تنافسي حر، بات المشهد الاقتصادي في البلاد أمام مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والفرص. ومن بين القطاعات التي تشكل حجر الأساس في الاقتصاد الوطني، يبرز المحور الغذائي والزراعي والثروة الحيوانية والصناعة الزراعية، باعتبارها الركيزة الأساسية للأمن الغذائي والاستقلال الاقتصادي.
فكيف يمكن لهذا القطاع أن ينهض في ظل اقتصاد جديد قائم على التنافسية والشفافية؟ في هذا التحقيق نحاول سبر آفاق هذا التحول الكبير، وكيف يمكن توجيه الاقتصاد السوري ليصبح أكثر كفاءة وإنتاجية في المجال الزراعي والغذائي.
آثار إيجابية وسلبية
المهندس الزراعي “ميسم جليس” يرى أن تغيّر شكل الاقتصاد السوري، وتحديد هويته (اقتصاد حر تنافسي) سيفرض على المزارع الاندماج في السوق التنافسية التي تفرض عليه تطوير أساليب الإنتاج وتحسين جودة المنتجات لمواجهة المنافسة القوية، ودعا الحكومة لمساعدة العاملين في هذا القطاع، وخاصة صغار المزارعين لتطوير أدواتهم في أراضيهم، لتحسين إنتاجهم وتخفيف كلفته.
أما رجل الأعمال والخبير الاقتصادي ثائر زين الدين، فيرى أن للتحول إلى الاقتصاد الحر في المجال الزراعي آثاراً إيجابية وأخرى سلبية، أما الإيجابية فهي:
أولاً: خلق روح المنافسة.
ثانياً: زيادة الرقعة الزراعية المستثمرة.
ثالثاً: التوجه للزراعات التخصصية.
رابعاً: جذب الاستثمار إلى المجال الزراعي في الأرياف.
وأما السلبية فهي:
أولاً: عدم قدرة المزارعين الصغار على المنافسة.
ثانياً: الاستهلاك غير المرشَّد للموارد الطبيعية بغية زيادة المنتج، ما يؤدي إلى عدم استدامة الموارد الطبيعية (أرض _ مياه، وغير ذلك).
ثالثاً: تعرض الأمن الغذائي لمخاطر ما لم تتم إدارته بشكل جيد.
إجراءات لابد منها
ولمواجهة التحديات في هذا المجال يرى زين الدين أنه يجب اتخاذ الإجراءات التالية:
أولاً: ضبط الخطة الزراعية وفق احتياج السوق الداخلية، ودراسة الأسواق الخارجية وفق أذواق المستهلك.
ثانياً: الالتزام بالقائمة الزراعية لدول الجوار التي يوجد بينها اتفاقيات تجارية.
ثالثاً: زيادة الكفاءة الإنتاجية في وحدة المساحة الزراعية.
رابعاً: اللجوء إلى الزراعات التخصصية على مستوى كل محافظة ومنطقة وقرية.
خامساً: العمل على تحسين جودة الناتج الزراعي النظيف.
سادساً: اعتماد الأصناف المناسبة بيئياً التي تتحمل الظروف المناخية لكل منطقة ومتغيراتها، من حيث الاحتياجات المناخية ( ماء، أسمدة، وغيرها) ووفق أذواق المستهلك ومن يضمن تشجيع الزراعات المستدامة مناخياً.
سابعاً: استخدام التكنولوجيا الحديثة في الزراعات، من حيث استخدام مبدأ الزراعات النظيفة وعدم استخدام المبيدات الكيميائية، إضافة إلى التحول لطرق الري والترشيد باستخدام المياه، وكذلك التحول للزراعات العضوية والحد من استخدام الأسمدة المعدنية والكيميائية. ثامناً: توزيع الاستثمار الزراعي بشكل منتظم وعادل بين القطاعين النباتي والإنتاج الحيواني.
الزراعة الذكية
وفي السياق ذاته يرى الخبير المختص بالإدارة التنفيذية وإعادة هيكلة الشركات، الدكتور عبد المعين مفتاح أن “تحرير السوق الزراعية يفتح الباب أمام الاستثمارات الخاصة، لكنه أيضاً يحمل تحديات كبيرة تتعلق بكيفية إدارة الموارد وتحقيق التوازن بين العرض والطلب، فالدعم الحكومي الذي كان يغطي جزءًا كبيرًا من التكاليف اختفى، ما يدفع المزارعين إلى البحث عن وسائل بديلة للتمويل وتحسين الإنتاجية عبر التكنولوجيا الحديثة والزراعة الذكية.”
ويعتقد أن “تبني التقنيات الحديثة في الزراعة ضرورة حتمية لضمان استدامة هذا القطاع في ظل نظام اقتصادي جديد، كاستخدام أنظمة الري الذكي، والزراعة الرأسية، والاستثمار في المحاصيل عالية الإنتاجية، لرفع كفاءة القطاع الزراعي وتخفيض تكاليف الإنتاج”. ويضيف الدكتور مفتاح: “لدينا فرصة ذهبية لتحويل الأراضي الزراعية في سوريا إلى نموذج للزراعة الذكية، ويمكننا الاستفادة من التجارب العالمية في استخدام الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيرة لمراقبة المحاصيل، وهذا من شأنه أن يزيد الإنتاج بنسبة تصل إلى 40% مع تقليل الهدر المائي بنسبة 50%.”
الثروة الحيوانية
تعد الثروة الحيوانية من الركائز المهمة في الاقتصاد السوري، ولكنها تعرضت لضربات قاسية خلال السنوات الماضية بسبب ضعف البنية التحتية وارتفاع تكاليف الأعلاف وانتشار الأمراض.
ومع تحرير السوق بدأت الاستثمارات تتجه نحو مزارع الأبقار الحديثة، ومشاريع إنتاج الألبان، والمسالخ المتطورة التي تعتمد على أحدث المعايير الصحية.
في هذه الجزئية، يقول الدكتور مفتاح: “لدينا نموذج ناجح في بعض المناطق السورية، حيث تم تأسيس مزارع متكاملة تعتمد على الطاقة المتجددة وتستخدم أنظمة غذائية متطورة لتحسين إنتاجية الحيوانات، أثبتت قدرتها على المنافسة، وأصبحت منتجاتها تُصدر إلى الأسواق الإقليمية”.
الصناعات الزراعية
لا يمكن تحقيق نهضة زراعية حقيقية دون وجود صناعة زراعية متطورة قادرة على تحويل المحاصيل إلى منتجات نهائية ذات قيمة مضافة عالية، فبدلاً من تصدير القمح – مثلاً – كمادة خام، يمكن تحويله إلى منتجات غذائية متنوعة، وبدلاً من بيع الفواكه والخضروات بأسعار منخفضة، يمكن تصنيعها وتعبئتها بطرق حديثة تناسب الأسواق العالمية.
وفي هذا الإطار، يوضح الدكتور مفتاح أن سوريا تمتلك إمكانيات هائلة لإنشاء مصانع غذائية متطورة، ويؤكد أن “لدينا وفرة في المنتجات الزراعية، لكن للأسف، لا تزال نسبة كبيرة منها تضيع بسبب عدم وجود مصانع حديثة للتعبئة والتغليف” تجربة وادي الفرات
إحدى القصص الناجحة التي رواها لنا د. مفتاح ، كمثال يحتذى به، هي تجربة “وادي الفرات”، حيث قامت مجموعة من المستثمرين المحليين بإنشاء مشروع زراعي متكامل يجمع بين الزراعة التقليدية والزراعة المائية، إلى جانب مصانع إنتاج العصائر والمربيات والمعلبات الغذائية.
ويوضح: “هذه المبادرة لم تساهم فقط في تقليل الهدر الزراعي، بل خلقت فرص عمل جديدة وأسهمت في استقرار السوق المحلي”.
تحديات وحلول
بالرغم من الفرص الواعدة، إلا أن هناك عقبات لا يمكن تجاهلها كضعف التمويل، وغياب البنية التحتية المتطورة، وعدم استقرار أسعار الصرف، ونقص الخبرات التقنية.
وحول هذه النقطة، يعلق الدكتور مفتاح قائلاً: “إن الحل يكمن في بناء شراكات بين القطاعين العام والخاص، وإيجاد حلول تمويلية مرنة مثل القروض الميسرة، وإنشاء حاضنات زراعية تدعم رواد الأعمال الزراعيين”.
ويرى أنه لا يمكننا الاعتماد على السوق وحده لحل المشكلات، بل “يجب أن تكون هناك سياسات حكومية تشجع على الاستثمار وتضمن استقرار الأسعار”.
ما المطلوب للمستقبل؟
لضمان نجاح التحول إلى اقتصاد زراعي تنافسي، يقترح الدكتور مفتاح بعض الإجراءات العملية: أولاً: تشجيع الاستثمار في التكنولوجيا الزراعية عبر منح تسهيلات للمشاريع التي تعتمد على أساليب حديثة في الري والإنتاج.
ثانياً: إطلاق مبادرات للتمويل الزراعي تستهدف صغار المزارعين وتوفر لهم القروض بأسعار فائدة منخفضة.
ثالثاً: تحفيز الصناعة الزراعية من خلال تقديم إعفاءات ضريبية للمصانع الغذائية التي تستخدم المنتجات المحلية.
رابعاً: بناء شراكات استراتيجية مع دول الجوار لتصدير المنتجات الزراعية السورية بجودة تنافسية.
خامساً: تطوير التعليم الزراعي عبر تحديث المناهج الجامعية وإدخال برامج تدريبية متخصصة في التقنيات الزراعية الحديثة.
يختتم الدكتور عبد المعين مفتاح بالقول: “إذا استطعنا تسخير إمكانياتنا بالشكل الصحيح، فسوريا قادرة ليس فقط على تحقيق الاكتفاء الذاتي، بل أيضاً على أن تصبح لاعباً رئيسياً في الأسواق الإقليمية والدولية”.
صحيفة الثورة