السينما السورية.. تعثر وتأجيل في دوران عجلة التصوير

يمكن تقسيم الإنتاج السينمائي السوري إلى ثلاثة أقسام، الأول ما تنتجه المؤسسة العامة للسينما في بلد كادت أن تكون فيه هي المنتج الوحيد، عدا تجارب فردية خاصة ومستقلة تبزغ هنا أو هناك في محاولة ليقول الشباب الشغوف “نحن هنا”، وهذا هو القسم الثاني،

أما القسم الثالث فيشمل الإنتاج المرتبط بمخرجين وكتاب سوريين يعيشون خارج البلد، يقومون بإنتاج أفلامهم من خلال لجوئهم لمن يؤمن بمشاريعهم ويعمل معهم بشكل مجاني أو شبه مجاني بحيث يكون مبلغ الإنتاج فقيراً، أو يجدون لمشروعهم التمويل الكافي بطريقة أو بأخرى.

الإنتاج السينمائي

ولكن ما حدث وسط خارطة الإنتاج الموزعة على الأقسام الثلاثة، أنه منذ التحرير إلى اليوم لم تدُر الكاميرا السينمائية بشكل فعلي إلا فيما ندر، أي أنه بعد قرابة “ستة أشهر”، ليس لدينا أي فيلم سينمائي جاهز أو شبه جاهز للعرض، وأغلب ما تم تصويره يندرج ضمن الإطار البرامجي أو الاجتهاد الشخصي،

حيث انطلقت الكثير من الكاميرات لتجول في مناطق كانت مركزاً للأحداث راصدة موثقة ما استطاعت، منها بقصد النشر على المواقع والمنصات والمحطات، ومنها بقصد إنجاز تقارير إخبارية، و”ربما” منها الآخر بنية إنجاز أفلام سينمائية “لم تظهر إلى النور”، حيث سعى العديد من المصورين “بمن فيهم مصورون أجانب” إلى تناول العديد من جوانب الحياة اليومية والسجون والدمار. فكانت سوريا أشبه باستديو كبير وكثيرون تسابقوا لمحاولة توثيق ما استطاعوا.

إلا أن الكاميرا السينمائية الاحترافية بقيت شبه غائبة عن الحدث، في وقت كان الأجدى أن تكون هي السبّاقة إليه، إن كانت الكاميرا التابعة للقطاعين العام أو الخاص المستقل، وكأن عجلة الحياة توقفت لديها، كما كان يُنتظر من السينمائيين أن يكونوا أول من ينزل إلى الميدان لإنجاز أفلام وثائقية أو روائية، تلامس ما جرى بشكل أو بآخر.

هذا المشهد يطرح العديد من التساؤلات: هل هناك مخرجون صوروا أعمالاً سينمائية فعلاً؟ وإن فعلوا فأين نتاجهم؟ وما سبب غياب هذا القطاع الهام عن الساحة في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى حضوره؟. ولكن هل نجور عليه عندما نطالبه بإنجاز أفلام وهو أصلاً يعاني من صعوبات ليست بجديدة، لا بل متجذرة فيه منذ زمن، ولا يغفل عنها أحد؟

ألا يشكل ما نتحدث عنه مطالبة ضمنية بولادة جديدة يحتاجها القطاع السينمائي في سورية لينهض بعد سنوات كثيرة كان يحاول فيها أن يكون له دوره بشكل أو بآخر؟.. والحديث دائماً يشمل القطاعين العام والخاص.

تجدر الإشارة ضمن هذا السياق إلى أن هناك مخرجين شباب أعربوا عن تحضيراتهم المستقلة، كحال الأخوين ملص اللذين سبق وصرحا في لقاء لهما مع صحيفة الثورة عندما عادا إلى سورية عن تصويرهما لفيلم وثائقي بعنوان “شجرة الأكدنيا” وآخر قصير روائي “دمشق يا بسمة الحزن”.

فجر الحرية

السؤال الذي يبرز إلى الواجهة، ماذا عن إنتاجات المؤسسة العامة للسينما خلال هذه الفترة؟ هل تم تصوير أي فيلم قصيراً كان أم طويلاً، خلال الأشهر الستة؟.. يجيب المخرج أيهم عرسان، مؤكداً أن عجلة السينما السورية لم تنطلق بعد بانتظار التغيير المأمول في المؤسسة، يقول:

“بعد أيام قليلة من التحرير تنادينا أنا ومجموعة من الزملاء في المؤسسة لإنجاز عمل يوثق بشكل سينمائي حالة الاعتقال السياسي والتغييب القسري في ظل النظام المخلوع، ولاسيما بعد أن تحرر أبناء الثورة السورية ومعتقلو الرأي من سجون النظام، ولدى كل منهم تجربة مؤلمة من التعذيب والتنكيل، فبدأنا بتنفيذ فيلم “ديكودراما” طويل بعنوان “فجر الحرية”،

يُعالج مشكلات الاعتقال السياسي في ظل النظام البائد “في عهد الأب والابن”، ونظراً لعدم توفر ميزانية في المؤسسة لتصوير الفيلم، فقد بادرنا للعمل مع مجموعة من الزملاء الإداريين والفنيين في المؤسسة، وبشكل تطوعي، واستطعنا إنجاز ما يقارب 15 بالمئة منه، ونحن الآن في انتظار أن تضع له الإدارة الجديدة القادمة في المؤسسة الميزانية المطلوبة لنتمكن من استكمال تصويره، ضمن شرط إنتاجي مقبول”.

ويلفت عرسان إلى أن هناك آمالاً كبيرة معقودة على القادم من الأيام، يقول: “نتمنى أن تستعيد المؤسسة العامة للسينما دورها الأول وأن تكون قاطرة ثقافية وفنية هامة في المجتمع، وهذا يتطلب تغييرات إدارية شاملة تطال إدارة المؤسسة التابعة للنظام البائد، ومجيء إدارة جديدة متنورة وصاحبة مشروع فني يطلق الحرية للمؤسسة، لتُنتج أفلاماً قريبة من الواقع ومعبرة عنه بصدق،

وهذه العقلية الجديدة التي نتمناها، من شأنها أن تتيح للسينمائيين التفكير والتعبير بحرية وصدق، وبالتالي الوصول الى الجمهور واستعادة العلاقة معه، وكذلك تمثيل سوريا في المهرجانات والمحافل السينمائية الدولية لإبراز الوجه الحضاري الحقيقي لبلدنا من خلال أفلام هامة كمحتوى وكشكل فني”.

جهود فردية

معاون المدير العام في المؤسسة العامة للسينما باسم خباز، يؤكد أنه بعد يوم واحد من التحرير بدؤوا بالتحرك الإنتاجي، يقول:

“كان لا بد من مواكبة الحدث وأن نوثق بعض الأمور الهامة، فانطلقنا من سجن صيدنايا، حيث اجتمع البعض من شباب المؤسسة على حب البلد، وحاولوا البدء بالتوثيق ضمنه، وتم الأمر بجهودنا الذاتية وإمكانياتنا الشخصية كمجموعة عمل، لأننا في المؤسسة كنا كبقية الدوائر الحكومية فيما يتعلق بالناحية المالية التي لم تكن واضحة، خاصة أنه لم يكن هناك “وزارة ثقافة” في فترة الحكومة المؤقتة،

وكانت الدكتورة ديالا بركات تسيّر بعض الأعمال الإدارية فقط من دون الأمور المالية، وأردنا حينها ألا نتوقف عن العمل، فوثقنا سجن صيدنايا من ناحية البناء والعذابات ووسائل التعذيب وبدأنا بتوثيق شهادات سجناء هم أبطال انقلاب عام 1982 المٌغيّب إعلامياً بشكل شبه كامل، والذين كانوا في سجن تدمر ويعتبرون الدفعة الأولى التي دخلت سجن صيدنايا مع مجموعات أخرى، وسجلنا أيضاً مع سجناء من بقية المشارب”.

وحول الفيلم الذي حمل عنوان “فجر الحرية”، يقول: “يندرج ضمن إطار الديكودراما، وصورنا منه بحدود 15بالمئة، ووثقنا ما كان ينبغي أن نوثقه في ذلك الوقت، ولم يكن همنا توثيق الانتهاكات وإنما كيف كان المعتقل في هذا المكان يقاوم التعذيب النفسي والجسدي، ويُثبت أنه إنسان قابل للحياة، ويتحدى ما يحدث معه من انتهاكات، رغم أنه في أضعف حالاته، وقد شاهدنا وسمعنا وسجلنا مع حالات تحدت هذا التعذيب،

فالسوري لم يكن مستكيناً لما يحدث معه. واعتمدنا على إمكانيات المؤسسة دون أن نصرف ليرة سورية واحدة، وكل من شارك لم يأخذ أي أجر، لا بل كان يدفع من جيبه ثمن طعامه وشرابه، أضف إلى ذلك أننا نعاني في المؤسسة من نقص ببعض التجهيزات، ومن خلال معرفتي ببعض شركات الإنتاج استطعت الحصول على تجهيزات بصفة استعارة دون مقابل، وكذلك فعل المخرج، وبمجرد أن عرفت الشركات بمضمون الفيلم تجاوبوا معنا سريعاً”.

وعن العراقيل المسببة في تأخر إنجاز الفيلم يشير “خباز” إلى أنه بمجرد إقرار خطة العمل وميزانية الفيلم سيتم استكماله.. فبعد تسمية وزير الثقافة في الحكومة الجديدة، نوقشت ميزانيات المؤسسة، وهم حالياً في انتظار صدور الميزانية العامة للدولة، حيث لايزالون يعملون وفق مبدأ الموازنة الاثني عشرية، “

وفيها تُقسم موازنة العام الماضي على 12 شهراً، وتأخذ استناداً لها اعتماداتك المالية”، وهو أمر معمول به في وزارات الدولة كلها. ويوضح فيما يتعلق بموضوع السيولة المالية من المصارف، أن فترة السحب كانت مقيّدة بمبالغ معينة، ولكن الأمور بدأت بالتحسن.

ويلفت إلى أنهم في المؤسسة قاموا خلال الفترة الماضية أيضاً بفعالية تكريم للمخرج الراحل نبيل المالح بذكرى وفاته، في صالة كندي دمشق، وذلك عبر تظاهرة عُرض فيها فيلمه “السيد التقدمي” الذي كان ممنوعاً من قبل الأمن السوري، كما عُرض فيلم عن حياته.

وفيما يتعلق بتصوير العديد من الأشخاص مقاطع فيديو توثيقية للنشر بشكل خاص أو على اليوتيوب، يقول: “تجد اليوم الكثير من المقاطع والأفلام الطويلة والقصيرة عن الثورة، ولكن ينبغي أن يكون هناك مرجعية تحققها الجهة الرسيمة والوحيدة التي تعنى بالإنتاج السينمائي، ولدينا أهمية كبيرة لتوثيق الثورة، وإنجاز أفلام قادرة على مخاطبة الجيل القادم بلغة بصرية جميلة، فالفيلم السينمائي هو من سيوثق ويخلد هذه الثورة في ذاكرة الشعوب”.

وفي نهاية كلامه تحدث عن المؤسسة العامة للسينما، وقال: “تم إنشاؤها عام 1963، ومرت بمرحلة ذهبية وتم إنتاج أفلام عالية الجودة فنياً وفكرياً وكانت تنتقد الأوضاع، فالمؤسسة لم تكن خاضعة للنظام البائد، ولكنها اختُطِفت مع بداية الثورة من قبل أشخاص، وحوّلت الأفلام المُنتجة إلى أفلام بروبوغندا دعائية له”.

صحيفة الثورة

  • Related Posts

    خان الجوخية “سوق الخياطين” أول خانات دمشق
    • يونيو 15, 2025

    اهتم السلاطين والولاة بدمشق، وبرز هذا الاهتمام ببناء المنشآت الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المختلفة التي أدت إلى بروز ملامح عمرانية حديثة اتسم بها الطابع المعماري لدمشق، فبنى السلاطين منشآتهم خارج أسوار…

    Continue reading
    من بوابة المتحف الوطني.. اليونسكو تعود إلى سوريا
    • يونيو 11, 2025

    أكدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو استئناف أنشطتها في سوريا بعد انقطاع دام 14 عاماً عن التعاون مع النظام البائد. وقالت المنظمة عبر موقعها الرسمي، إنها “أطلقت مبادرة أولى…

    Continue reading

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    تكنولوجيا

    “جوجل سيرش” يرد على استفسارات المستخدمين صوتياً

    • يونيو 15, 2025
    “جوجل سيرش” يرد على استفسارات المستخدمين صوتياً

    سوريا تطلق مشروع “برق نت” لتوفير الإنترنت فائق السرعة

    • يونيو 15, 2025
    سوريا تطلق مشروع “برق نت” لتوفير الإنترنت فائق السرعة

    «مايكروسوفت أوفيس».. ميزات جديدة لعمل أسهل وأسرع

    • يونيو 14, 2025
    «مايكروسوفت أوفيس».. ميزات جديدة لعمل أسهل وأسرع

    «أبل» المتأخرة في الذكاء الاصطناعي تواجه تحديات معقّدة

    • يونيو 8, 2025
    «أبل» المتأخرة في الذكاء الاصطناعي تواجه تحديات معقّدة

    جيميني.. تلخيص ذكي لرسائلك في Gmail

    • يونيو 8, 2025
    جيميني.. تلخيص ذكي لرسائلك في Gmail

    الميكروويف والمرايا… 5 أشياء تُضعف الواي فاي في منزلك

    • يونيو 7, 2025
    الميكروويف والمرايا… 5 أشياء تُضعف الواي فاي في منزلك

    «ويكي توك»… تجربة معرفية على طريقة «تيك توك»

    • يونيو 7, 2025
    «ويكي توك»… تجربة معرفية على طريقة «تيك توك»

    سوريا تبحث مع شركات خليجية مشروع الألياف الضوئية

    • يونيو 5, 2025
    سوريا تبحث مع شركات خليجية مشروع الألياف الضوئية

    الذكاء الاصطناعي هل يحل محل الـ«HR»؟

    • يونيو 4, 2025
    الذكاء الاصطناعي هل يحل محل الـ«HR»؟

    التنافر المعرفي البشري يظهر في نموذج للذكاء الاصطناعي

    • يونيو 3, 2025
    التنافر المعرفي البشري يظهر في نموذج للذكاء الاصطناعي