
إزاء غياب النقل العام وندرة الخاص وارتفاع كلفته، يدفع موظفو ريف حلب الثمن الأكبر من وقتهم وصحتهم ودخلهم المحدود، وسط انعدام الحلول وتردي الطرقات.
تتحول رحلة الذهاب إلى العمل في ريف حلب الشمالي في سوريا إلى مهمة يومية شاقة، وسط قلة وسائل النقل وارتفاع كلفتها، بعدما غابت خدمات النقل العام وتقلصت أعداد سيارات الأجرة والحافلات الخاصة، بسبب غلاء الوقود ورداءة الطرقات.
ويضطر العديد من المواطنين إلى المشي مسافات طويلة أو الانتظار لساعات على الطرقات، قبل الوصول إلى وظائفهم، علماً أن رواتبهم لا تغطي حتى نفقات المواصلات.
وبين الغياب القسري والتأخر المتكرر، تتراكم معاناة شريحة واسعة من العاملين في الدوائر الحكومية والمدارس والمراكز الصحية في قرى وبلدات ريف حلب، حتى صارت قضية النقل إحدى أبرز مظاهر التدهور الخدماتي في المنطقة.
ويصف محمد درويش، الموظف في دائرة الخدمات ببلدة مارع، معاناته اليومية قبل الوصول إلى عمله، ويقول لـ”العربي الجديد”: “أصبحت رحلة الذهاب إلى الوظيفة عبئاً يومياً يتطلب تخطيطاً وجهداً مضاعفاً، إذ أضطر إلى مغادرة منزلي في وقت مبكر جداً قبل السابعة صباحاً، حتى أتمكن من اللحاق بالدوام عند الثامنة، ومع ذلك كثيراً ما أصل متأخراً بسبب ندرة وسائل النقل وتقطعها”.
ويشير درويش إلى أن سيارات الأجرة العاملة على خط بلدته قليلة وغير منتظمة، وأنه غالباً ما ينتظر لأكثر من ساعة قبل مرور إحداها. وفي حال امتلائها أو تعطلها، يجد نفسه مجبراً على اجتياز مسافات طويلة تصل أحياناً إلى خمسة كيلومترات سيراً على الأقدام. ويوضح أن الارتفاع الكبير في أسعار الوقود جعل كلفة المواصلات تفوق قدرته المادية،
ويتابع: “حتى لو وجدتُ وسيلة نقل، تكون الأجرة مرتفعة لدرجة لا أستطيع تحملها، إذ إن راتبي الشهري بالكاد يغطي المصاريف الأساسية لعائلتي، ما يدفعني أحياناً إلى المناوبة مع زملائي على استخدام دراجة نارية واحدة لتخفيف النفقات، رغم ما يرافق ذلك من مخاطر وصعوبات في الطرق الريفية الوعرة”.
ويكشف درويش أن هذه الظروف دفعت بعض الموظفين إلى التغيب المتكرر أو طلب النقل إلى مناطق أقرب، فيما يستمر آخرون في المعاناة اليومية حرصاً على وظائفهم، رغم مشقة الطريق وغياب أي حلول عملية من الجهات المعنية لتأمين وسائل نقل منتظمة للعاملين في الريف.
وتتحدث أمينة الخلف، المعلمة في إحدى مدارس ريف إعزاز، عن معاناة المعلمات اللواتي يواجهن صعوبات مضاعفة في التنقل بين القرى والمدارس النائية، وتقول لـ”العربي الجديد”: “صار الوصول إلى المدرسة أشبه بمغامرة يومية محفوفة بالمشقة والمخاطر، ولا سيما في فصل الشتاء حين تتحول الطرقات الترابية إلى مستنقعات موحلة، إلى جانب ندرة وسائل النقل”.
وتضيف: “اضطررت أكثر من مرة إلى ركوب شاحنة صغيرة أو سيارة نقل بضائع مع عمال ومزارعين كي أصل إلى المدرسة في الوقت المحدد. المشهد مألوف لكل معلمة في الريف، فإما أن نقبل بالمخاطرة وإما أن نغيب عن الدوام”.
وتؤكد الخلف أن “تكرار الغياب أو التأخر ليس ناتجاً عن إهمال، بل عن واقع قاسٍ لا يرحم، إذ إن غياب شبكة نقل منظمة وارتفاع أجور سيارات الأجرة الخاصة يجعلان الالتزام بالدوام مهمة شبه مستحيلة، رغم حبنا للتعليم وشعورنا بالمسؤولية تجاه طلابنا، لكننا نحتاج إلى دعم حقيقي من الجهات المعنية، حرصاً على استقرار العملية التعليمية”.
أما الممرضة سلمى عبد الله، التي تعمل في مستشفى خاص بريف حلب، فتصف معاناتها اليومية في التنقل بأنها “رحلة مرهقة تستهلك طاقتها الجسدية والنفسية قبل أن تبدأ عملها”.
وتضيف: “أنتظر على قارعة الطريق لأكثر من ساعتين أحياناً، أملاً في العثور على وسيلة نقل، وأضطر إلى دفع نصف راتبي اليومي مقابل كلفة النقل، هذا إن حظيتُ بسيارة أجرة”.
وتؤكد عبد الله أن المعاناة ذاتها تطاول زميلاتها في القطاع الصحي، ما يهدد استمرارية تقديم الخدمات الصحية الأساسية على أكمل وجه. وتتابع: “نريد القيام بواجبنا الإنساني، لكن كيف لنا ذلك، ونحن عاجزون حتى عن الوصول إلى مراكز عملنا”.
ويرى مدير أحد المراكز الخدمية في ريف حلب، المهندس ناصر قدري، أن تحدي تنقل الموظفين لم يعد مشكلة فردية إنما قضية مؤسسية تمسّ كفاءة وفعالية المؤسسات العامة برمّتها،
ويوضح لـ”العربي الجديد” أن نسبة غياب العاملين تسجل أرقاماً مرتفعة، إذ تصل في بعض الأيام إلى أكثر من 40% بسبب صعوبات الوصول إلى أماكن العمل، ما ينعكس سلباً على تقديم الخدمات للمواطنين عبر قطاعات حيوية، تشمل البلديات والمستشفيات والمدارس.
ويتحدث قدري عن حلول مؤقتة جرى تطبيقها، مثل تنظيم نقل جماعي باستخدام سيارات خاصة، لكنها اصطدمت بشح الموارد وارتفاع كلفة التشغيل، ما حال دون استدامة هذه الحلول، ويؤكد أن معالجة إشكالية النقل الداخلي في المناطق الريفية صارت ضرورة ملحّة لا تقتصر على تسهيل حركة العاملين فحسب، بل تشمل إنعاش الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
وتعاني مناطق ريف حلب منذ سنوات من ضعف البنية التحتية وتراجع خدمات النقل العام، نتيجة الحرب السورية وتدمير الطرقات ونقص الوقود.
ووسط عجز الجهات المعنية عن تأمين نقل عام منتظم، تبقى الحلول فردية مكلفة، بينما يدفع الموظفون في الريف الثمن الأكبر من وقتهم وصحتهم ودخلهم المحدود. وبين الوعود بتحسين الخدمات وواقع الطرقات الترابية المهجورة، تستمر معاناة الموظفين لتصبح وسيلة النقل حلماً بسيطاً في حياة تزداد صعوبة يوماً بعد آخر.
العربي الجديد- هاديا المنصور














