
رغم التوسع السكاني الكبير في ريف حلب خلال السنوات الأخيرة، لا تزال خدمات السجل المدني محصورة في عدد محدود من المراكز داخل مدن كبرى، مثل أعزاز والباب وعفرين،
ويفرض هذا التمركز تكبد آلاف العائلات التي تقيم في قرى وبلدات مجاورة عناء رحلات طويلة لإنجاز أبسط المعاملات، من استخراج وثيقة ولادة أو قيد عائلي، أو الحصول على تثبيت زواج وغيرها.
وبين ازدحام الطرقات وارتفاع تكاليف النقل وضيق الوقت، تحوّلت الإجراءات المدنية إلى عبء يومي يثقل كاهل السكان، خصوصاً للفئات الأكثر ضعفاً.
قال خالد الحسين، وهو أب لخمسة أطفال من قرية صغيرة قرب مارع، تأخر في تسجيل ولادة ابنه الأصغر الذي بلغ خمس سنوات ودخل المدرسة قبل نحو سنة، لـ”العربي الجديد”: “يتحمل الأهالي مشقة كبيرة حين يضطرون إلى مراجعة السجل المدني”، لأن إنجاز معاملة بسيطة يستنزف منه يوماً كاملاً، ويضطره إلى ترك عمله والتوجه مبكراً إلى المركز الواقع في المدينة.
أضاف: “أحتاج إلى اصطحاب شاهدين من منطقتي حصراً يشهدان أن الطفل الذي أرغب في تسجيله هو ولدي، ويصعب أن أجد من يستعد لإضاعة يوم كامل في مرافقتي إلى المدينة، فالطريق وحده يستغرق نحو ساعتين ذهاباً وإياباً،
كما أن هناك انتظاراً طويلاً أمام شبابيك المراجعين، ما يجعل العملية مرهقة وغير عملية بالنسبة لي ولغيري، خاصة عمال اليومية مثلي، وعدم توفر أي مركز بديل أو نقطة خدمة في القرى المحيطة يُجبر الأهالي على تحمّل هذا العناء في كل مرة. الريف في حاجة ماسة إلى مكاتب قريبة تخفف الضغط عن الناس”.
وواجهت لمياء العبد الله المشكلة نفسها حين اضطرت أخيراً إلى التوجه لمركز السجل المدني في مدينة الباب من أجل تثبيت ولادة طفلها، وقالت: “كانت الرحلة شاقة جداً رغم أن المعاملة بسيطة ولا تتطلب هذا العناء، والكلفة المادية كانت أول ما أثقل كاهلي، إذ أنفقت أكثر من 350 ليرة تركية فقط على المواصلات، وهو مبلغ يفوق كثيراً قدرة الأسر الريفية”.
وأشارت إلى أنها قضت ساعات طويلة في الانتظار داخل المركز المزدحم، ما جعل المهمة أكثر إرهاقاً، خاصة أنها أم لأطفال صغار يصعب تركهم فترات طويلة،
وتلفت إلى أن غياب أي مكتب قريب في الريف يجعل النساء تحديداً أمام تحديات أكبر، نظراً إلى صعوبة التنقل المتكرر وافتقار كثيرات إلى وسائل نقل مناسبة، وترى أن إنشاء نقاط خدمة صغيرة في القرى سيوفر وقتاً وجهداً، ويخفف العبء عن العائلات، خاصة النساء”.
وقال عبد الرزاق المحمد، وهو شاب يعمل في مكتب وساطة عقارية في ريف حلب، عن تجربته الشخصية مع صعوبة الوصول إلى مراكز السجل المدني، لـ”العربي الجديد”: “تتطلب طبيعة عملي إعداد معاملات تتعلق ببيع وشراء منازل أو تثبيت وكالات، ما يجعلني في حاجة متكررة لاستخراج أوراق رسمية، لكنني أجد نفسي مضطراً لتأجيل معظمها بسبب بعد المركز وتعقيدات المراجعة”.
وروى المحمد أنه احتاج أخيراً إلى الحصول على إخراج قيد لإنجاز عقد بيع لأحد الزبائن، لكنه أرجأ المعاملة أكثر من مرة لأن “الذهاب إلى مركز المدينة يعني خسارة يوم عمل كامل، كما أن تكاليف النقل مرتفعة. وأدى هذا التأخير إلى تجميد الصفقة أسابيع، ما تسبب في خسارتي عمولة كنت أعوّل عليها لتحسين دخلي.
وهذه التجربة ليست استثناءً، بل تتكرر كلما احتجت إلى إنجاز معاملة جديدة، وأنا أفكر مرات بأن أرجئ المعاملة، لكن كل تأجيل يؤثر على عملي وعلاقتي بالزباين، وغياب مكاتب قريبة من الريف يخلق مشاكل حقيقية ليس فقط للناس العاديين، بل لمن يرتبط عملهم بأوراق رسمية”.
ورأى الباحث في الإدارة المحلية محمد القصير أن المشكلة لا تتعلق فقط بتمركز المكاتب في المدن الكبرى، بل أيضاً بغياب رؤية واضحة لتوزيع الخدمات وفق الكثافة السكانية،
وقال لـ”العربي الجديد”: “يضم الريفان الشمالي والشرقي لحلب مئات القرى التي تشهد نمواً سكانياً كبيراً بسبب النزوح والاستقرار، لكن البنى الإدارية لا تزال مركزية وغير متكيفة مع الواقع الحالي. الحل الأمثل هو إنشاء مكاتب فرعية متنقلة أو نقاط تسجيل صغيرة في كل ناحية لتخفيف الضغط عن المراكز الكبرى وتوفير خدمة أكثر عدالة”.
تابع: “عدم سهولة الوصول إلى السجل المدني يخلق فجوات قانونية، فتأخر تسجيل الوقائع المدنية قد يحرم الأسر من حقوق أساسية، مثل التعليم أو المساعدات أو تثبيت الملكيات والزواج، لذا لا بدّ من إعادة هيكلة هذه الخدمات بشكل يتناسب مع التحوّلات الديمغرافية في المنطقة”.
العربي الجديد- هاديا المنصور













