
تشهد سوريا هذا العام واحدة من أعتى موجات الجفاف في تاريخها الحديث، وقد شمل تأثيرها المناطق كلها، بما فيها محافظة طرطوس السّاحلية، التي اشتهرت بغزارة هطولاتها المطرية،
إلا أن هذه الهطولات تراجعت بشكل كبير، وانخفض منسوب السّدود، وجفّ عدد من الينابيع والآبار، حتى باتت أزمة حقيقيّة طالت مصادر مياه الشّرب والقطّاع الزّراعي، وهذا ما أوجد حالة من المعاناة والخوف لدى المواطنين بشرائحهم كافة.
ومما يزيد من هذه الأزمة عملية استجرار مياه الشّرب إلى الغرف والمشاريع الزّراعية للسقاية والمسابح، وحرمان السّكان منها، حيث غالباً ما تكون هذه الغرف والمشاريع في السّهول والوديان بحكم الجغرافيا، وهذا ما يؤدي إلى تدفق المياه باتجاهها، وانقطاعها عن منازل المواطنين، ناهيك بسقاية البساتين حول المنازل.
أمْيَل إلى التفاقم
يؤكد عضو جمعية العلوم الاقتصادية عبد اللطيف شعبان، أن أزمة مياه الشّرب قائمة منذ سنوات في أكثر من محافظة سورية، لا بل إن هذه الأزمة تكاد تكون أمْيَل إلى التفاقم عاماً بعد آخر، بدلاً من أن تكون أمْيَل إلى الانخفاض الواجب الحصول، تواكباً مع ما تم من استعدادات، ووعود.
والمؤسف والمستغرب أنها قائمة في السّاحل السّوري المنطقة الأعلى كمية هطل في سوريا على مدار مئات السّنين، فالعديد من قرى السّاحل تشهد انقطاع المياه عنها لأشهر، عدا عن انقطاعها لأسابيع وأيام في الكثير منها.
والكثير من هذه القرى لم يستطع أهلها الاستفادة من مياه الينابيع الموجودة في بعضها نظراً لتلوثها، بسبب ضعف تنظيم وتنفيذ مشاريع الصّرف الصّحي، وسوء بعض الذي تمّ تنفيذه منها.
استجرارها للري والمسابح
لا يخفى على أحد أن بعض النّقص الذي نشكو منه بخصوص ضعف توفر مياه الشّرب يعود إلى استخدام هذه المياه واستثمارها في ري مزروعات منزليّة، والمؤسف جداً- حسب شعبان- أن البعض استجرّ شبكة مياه الشّرب لإرواء زراعات بريّة، ومسابح في أراضٍ زراعيّة بعيدة عن المنازل،
وكثير منهم يمتلكون تراخيص نظامية من دون الاكتراث بما يخلّفه هذا الإجراء من معاناة ونقص في مياه الشّرب لدى الأهالي، ولاسيما في ظل الجفاف الحاصل، والتّقنين الطّويل.
ولفت شعبان إلى ظاهرة جديدة هذا العام، تمثّلت بانخفاض كمية الأمطار إلى ما يقارب النّصف، بما في ذلك الأمطار السّاحلية، ما زاد من حدة الأزمة، وجميل جداً أن تدعو السّلطات إلى مزيد من التّقنين، ولكن الأجمل يتجلى ببذل المزيد من مسعاها الواجب باتجاه استثمار الآبار التي لم تستثمر،
والعمل لفتح آبار جديدة، حيث تتوفر المياه فعلاً، لا حفرها في أماكن لا ماء فيها، كما حدث عند حفر عدد من الآبار في الأعوام الماضية، تلك التي لم تعطِ ماء رغم التّكاليف الباهظة التي دفعت عليها.
لم يتحقق لتاريخه
شعبان أشار إلى أن واقع الحال يؤكّد وجود الماء في السّاحل، ما كان منه مكشوفاً يتدفق كينابيع جارية، أو مخزون في باطن الأرض كمجار وأحواض، وفق ما قاله أكثر من مرة المعنيون في مديريتي الموارد المائية، ومؤسسة مياه طرطوس،
فنسبة كبيرة من مياه نبع السّن الغزير في بانياس تذهب إلى البحر، ومن المجمع عليه وجود العديد من ينابيع المياه الصّالحة للشرب ضمن البحر على بعد أمتار من شاطئ طرطوس، مع ثبوت وجود مياه أخرى باطنيّة غزيرة جنوب شرق مدينة طرطوس.
وقد سبق أن تم إنشاء سد الصّوراني في منطقة الشيخ بدر، وسد آخر في منطقة الدريكيش ليكونا مخصَّصين لمياه الشّرب، ولكن رغم جاهزيتهما منذ سنوات لم يتحقق استثمارهما لهذه الغاية حتى تاريخه، نظراً لاستمرار تلوثهما بمياه الصّرف الصّحي.
إدارة كفوءة
حقيقة الأمر أن الموارد المائيّة موجودة، ولكن-وفق شعبان- الإدارة التي يجب أن تستثمرها بحكمة تكاد تكون مفقودة، فإن كانت الحكومات السّابقة قد نجحت في تعطيل استثمار هذه الموارد رغم وعودها المضلّلة والمماطلة، وما تذرعت به من حصار، فالكرة الآن في ملعب الحكومة الحاليّة، والحكومات القادمة، التي عليها الانتقال من الوعود إلى التنفيذ.
إذ وخلافاً للقول المأثور لقد طفح الكيل، فاليوم قد فرغ الكيل، والسّيل لم يبلغ الزّبى، بل كاد الجفاف أن يتجاوز الشّفاه ويصل إلى القلوب، ولم يعد الخوف من تساقط الأوراق، بل الهلع من موت الجذور.
وأضاف: لنفترض جدلاً أن ماء الينابيع قليل، والمياه الجوفيّة قليلة، فنحن على تخوم البحر الأبيض المتوسط الذي تمتد شواطئه على حدود محافظتين، ويمكن تحلية مياهه لغاية استخدامات شتى كما يجري في بلدان عديدة، ويمكن أن يصح علينا القول:” كالعيس في الصّحراء يقتلها الظمأ، والماء فوق ظهورها محمول”.
مشكلات الصّرف الصّحي
وأردف شعبان: إن سوريا واحدة موحدة، ومن الجائز، بل من الحق أن تشرب دمشق من مياه السّاحل الفائضة تماشياً مع ما تم التّذكير به مؤخراً عن دراسات سابقة بهذا الشّأن، ولكن الإجراء الأولي يجب أن يكون بالمسارعة في معالجة أزمة الصّرف الصّحي في السّاحل، لوقف التّدهور المتتابع في تلوث مياهه السّطحيّة والجوفيّة، فهل من مجيب قبل فوات الأوان؟.
الثورة – نورما الشيباني