
تكتنز اللاذقية بجبالها وبحرها ثقافة متجذرة تناقلتها الأجيال، لتشكّل لوحة تراثية من الأسواق القديمة التي تفوح برائحة التاريخ، إلى الأغاني البحرية والمواويل الجبلية، ومن الحرف اليدوية الدقيقة إلى المهرجانات الشعبية، لينبض التراث المادي واللامادي في هذه المدينة حياة حاملاً في طياته حكايات وذكريات.
وفي مواجهة تحديات الحداثة وتغير أنماط العيش، يبرز دور المجتمع المحلي والمؤسسات الثقافية في الحفاظ على الهوية الثقافية الفريدة، وإبرازها كجزء من إرث يربط الماضي بالحاضر، ويمنح المستقبل جذوره الراسخة.
عن أهمية التراث في حياة أهالي مدينة اللاذقية حدثّنا مدير آثار موقع أوغاريت والباحث في الآثار والتراث الشعبي الدكتور غسان القيم عن المخزون التراثي لهذه المحافظة.
أهمية التُراث في حياة الأجيال
أشار الدكتور القيم إلى أن التراث شأنه شأن الثقافة، هذا الموروث الذي ورثناه عن أجدادنا من جيل إلى جيل حتى وصل إلينا في حاله الراهن.. والإبقاء على هذا التراث حياً يجب أن يظل جزءاً من هذه الثقافة، وأن يمارس ويعلّم بانتظام في مجتمعاتنا المحلية.
ورأى أن صون تراثنا الثقافي يتطلب العمل على بقاء هذا التراث فعالاً في حياة أجيال هذا اليوم، ونقله إلى الأجيال المقبلة وتجدده باستمرار، وتوثيق وإجراء البحوث بشأنه والمحافظة عليه والترويج له ونقله، ووضع مناهج له عن طريق التعليم الإلزامي في مدارسنا وإحياء مختلف جوانب هذا الموروث الثقافي.
الباحث القيم أوضح أن التراث الشعبي أو ما يطلق عليه “التراث اللامادي” أصبح علماً قائماً بحد ذاته، له مادته وطرقه ومناهج بحثه العلمية والعملية، وقد بدأ الاهتمام به عالمياً، إذ ارتبط هذا التراث بالروح القومية والهوية الوطنية وتطور الحياة والمعارف والفلسفة والعقائد والآداب،
مضيفاً: إن هذا التراث بكل مضامينه أصبح يطلق عليه في الدراسات الحديثة اسم “الثقافة الحيّة”، وله مؤسساته ومؤتمراته الدولية التي تحظى برعاية المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم “اليونسكو”.
ولا ننسى أن دراسة التراث الشعبي تدعم وتمكّن دور اللغة العربية وتثبت جذورها الموغلة في القدم، وتؤكد أصالتها وحيويتها وألقها المستمر في حياتنا اليومية، إضافة إلى أن تطور اللهجات المحلية بكل أبعادها الفلكلورية واللفظية والتراثية أتاح لنا التعرف على أصول ومعارف، كانت غائبة عن أذهاننا حتى فترة قريبة، فقد ثبت من خلالها أن هذه اللهجات تضم في ثناياها ومضمونها ومفرداتها معاني مدلولات إلى آلاف السنين.
العربية بوتقة حضارية
عن أهمية البحث العلمي، أوضح الدكتور القيم أنه قادنا إلى أن لهجة سكان اللاذقية المستخدمة في منطوقها حتى يومنا هذا، تضم أكثر من ثمانمئة كلمة من أصول أوغاريتية، يعود تاريخها الى الألف الثاني قبل الميلاد.
وبالمقارنة بين القاموس العربي والمفردات والأسماء من مملكة تاريخها إلى ٢٤٠٠ قبل الميلاد، فإن لغتنا العربية كانت بمثابة البوتقة الحضارية واللغوية التي انصهرت فيها جميع اللغات واللهجات الموجودة في الحضارات القديمة .
وحول حضارة أوغاريت وما زخرخت به، تحدث الباحث القيم بأنه يجب علينا ألا ننسى أن مملكة أوغاريت ازدهرت وعاشت عصرها الذهبي الذي امتد من عام ١٥٠٠ قبل الميلاد إلى نهاية عام ١٢٠٠ قبل الميلاد، وما قدمته من تراث إنساني خلال الأوضاع الإقليمية والدولية،
و خاصة فترة الألف الثاني قبل الميلاد، والقوى المؤثرة في مدينة أوغاريت، وخاصة في المجال الحضاري والثقافي، الذي أكد على احترام الآخر والحرص على العلاقات السلمية مع دول الجوار والبعد الجغرافي آنذاك.
الحفاظ على الموروث
إضافة إلى ذلك، أكدت أوغاريت على التعددية البشرية واللغوية والثقافية وإمكان العيش المشترك في ظل هذه التعددية وما أظهرته وثائق أوغاريت من أهمية في إظهار جوانب الحياة الإنسانية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والمهنية، ما يؤكد تطور المجتمع الأوغاريتي.
أما البعد الملحمي والأدبي للأساطير والقصائد فقد قدمت أوغاريت فكراً للبشرية أثّر في الحضارات الأخرى، وخاصة في الحضارة الإغريقية، الحفاظ على الموروث الشعبي كان ديدن المهتمين بهذا الشأن، يضيف الدكتور القيم: إنه من خلال ما قدمه تراثنا من تنوع وإرث ثقافي كبير خلال آلاف السنين،
وفي اجتماعات لمجموعة من الباحثين والمهتمين بالشأن التراثي، لهم بصمات واضحة في إحياء هذا التراث في محافظة اللاذقية، تقدمنا بمجموعة من الأفكار والآراء التي يمكن أن تسهم، ولو بحدودها الدنيا، حتى نستطيع أن نحافظ على ما تبقى من هذا التراث الشعبي، ومنع اندثار الكثير من الصناعات التقليدية الشعبية التي كانت رائجة كثيراً في محافظتنا ولم تعد تمارس من قبل أصحابها، لعدم مواكبتها للظروف الحالية وما طرأ على حياتنا.
ومن أهم هذه الأفكار، كان المحافظة على ما تبقى من حمامات أثرية، وإعداد دراسات ترميمية لها من أجل إعادتها إلى الوضع الذي كانت عليه سابقاً، والحفاظ على القناطر والأبنية الحجرية والبيوت الطينية، التي مازال الكثير منها محافظاً على حاله في العديد من قرى ريفنا الجميل.
ومن الضروري التعريف بالأدوات الزراعية والصناعية والتجارية، والاهتمام بالينابيع وعيون الماء التي مازالت مياهها صالحة للشرب حتى الآن، ومنها عين الماء الموجودة في قرية عين اللبن المسماة “بعين البتريزات” وعين الماء الموجودة في قرية عين البيضا، إضافة إلى العين المشهورة عين بسنادا.
مهارات وحرف تقليدية
الدكتور القيم شدد على ضرورة الإسراع للحفاظ على الحرف التقليدية التي بدأ بعضها يندثر إذا لم يتم الحفاظ عليها، وإحيائها من جديد بتقديم الدعم لها، ومنها الخياط العربي- الإسكافي- المبيّض- مقشش الكراسي- نجار الملاعق الخشبية نسيج الحصر “حصر القش”- السلال المصنوعة من القصب -تطريز المناديل الحريرية- البسط الصوفية- صناعة الفخار- النحاس والزجاج وغيرها من الحرف التي تعود في جذورها إلى آلاف السنين.
ويتم الحفاظ على هذه الحرف، وفق رأي الباحث القيم، أن يقام سوق خاص، يجمعها بمساعدة الجهات المعنيّة أسوة بأسواق دمشق وحلب، وإحياء صناعة الأزياء التقليدية، لأن الغنى والتنوع الموجود في أزياء وملابس أهلنا التقليدية عبر تاريخنا، قلّ وجودهما في أي منطقة أخرى من مناطق العالم.
والأهم تشجيع أهلنا في الريف على زراعة المزروعات ذات الصفة التراثية والتاريخية، مثل “اليانسون- البابونج- حبة البركة- الزوفا- والزعتر”، وتربية دودة الحرير “القز”، وإعادة زراعة الدخان المدخن الذي اشتهرت به محافظة اللاذقية، وحقّق لها شهرة عالمية.
وأخيراً.. إن صون هذا الإرث العريق واجب علينا وليس مجرد احتفاء بالماضي، بل هو استثمار في الهوية الثقافية، وركيزة لتعزيز الانتماء وداعم للسياحة والتنمية المستدامة.
ومع كل مبادرة توثيق أو مهرجان أو ورشة إحياء للحرف والفنون، أو دعم للحرف، تُكتب صفحة جديدة في سجل تاريخنا، تؤكد أن اللاذقية تحمل ماضيها بكل فخر نحو مستقبل أكثر إشراقاً.
الثورة – سهى درويش