
تتحول رحلة المريض في إدلب إلى صراع يومي؛ بين حاجته الملحّة للعلاج وقدرته على شراء الدواء، في ظل شكاوى متزايدة من ارتفاع أسعار الأدوية بشكل غير مسبوق، وتفاوت جودتها، وغياب بدائل وطنية تغطي النقص المتزايد.
وبينما تعلن الجهات الصحية عن إجراءات «لضبط السوق»، يرى كثيرون أن الواقع مختلف تماماً، في ظل استغلال حاجة المرضى وغياب الرقابة الفعلية.
في أحد أحياء إدلب، تقف سليمة الرماح (44 عاماً) خارج صيدلية صغيرة، ممسكة بالوصفة الطبية لابنها المصاب بالربو،
وتقول لصحيفة «الثورة السورية»: إنها صُدمت حين أخبرها الصيدلي بأن سعر علبة الدواء تضاعف خلال شهر واحد فقط، مبرّراً ذلك بأن «الأسعار تُفرض من الموردين، ولا يملك أي صيدلي القدرة على تعديلها».
وتضيف سليمة أن هذه الزيادات المفاجئة دفعتها إلى شراء نصف الجرعة المطلوبة فقط، على أمل أن «تسد الحاجة مؤقتاً»، رغم إدراكها أن ذلك لا ينسجم مع الحالة الصحية لابنها، لكنها تجد نفسها مضطرة إلى المفاضلة بين شراء الدواء كاملاً أو التخلي عن جزء من احتياجات المنزل الأساسية.
وتشير إلى أن رحلة البحث عن سعر أقل باتت جزءاً من حياتها اليومية، إذ تنتقل بين أكثر من صيدلية في كل مرة، لكنها غالباً ما تعود إلى المنزل من دون حلول، وأكثر ما يقلقها، كما تقول، هو شعورها بأن المرضى «باتوا وحدهم في مواجهة ارتفاع الأسعار، وسط غياب تام لأي جهة يمكن أن تضبط الأسعار أو تراقب جودة الأصناف المطروحة».
وترى سليمة أن بعض الصيادلة يستغلون حاجة المرضى، لافتة إلى أن أدوية مزمنة تختفي أحياناً من الصيدليات ثم تعود فجأة بأسعار أعلى، هذا الواقع، بحسب قولها، أفقدها الثقة بما تسميه «الفوضى الدوائية»، وجعلها تخشى أن تجد نفسها يوماً عاجزة تماماً عن تأمين الدواء لابنها، الذي يعتمد عليه يومياً لتجنب نوبات الربو الحادة، ولا سيما مع قدوم موسم البرد.
وعلى بُعد أمتار من الصيدلية ذاتها، يتحدث أحمد العليو (32 عاماً)، وهو موظف في القطاع الخاص، عن معاناة مشابهة ولكن بعبء أشد،
ويقول: إن راتبه الشهري يكاد لايكفي لتأمين الدواء لوالده المصاب بمرض القلب، موضحاً أنه بات يقضي جزءاً كبيراً من يومه في التنقل بين الصيدليات، إذ يقارن في كل مرة بين أربع أو خمس صيدليات على الأقل؛ أملاً في العثور على سعر أقل، لكنه كثيراً ما يصطدم بفروق لافتة قد تتجاوز 20 في المئة للدواء ذاته.
ويقول أحمد: إن هذا التفاوت يثير لديه شعوراً بالعجز والارتباك، في ظل غياب أي مرجع واضح للتسعير، ما يجعل المرضى «ضحايا للأمر الواقع»،
ويؤكد أن الأسرة لا تملك ترف التخلي عن الدواء، ولا سيما في حالة والده التي تتطلب علاجاً مستمراً من دون انقطاع، الأمر الذي يجعل أي زيادة في الأسعار عبئاً مباشراً على معيشتهم الأساسية.
ويضيف في حديثه لصحيفة «الثورة السورية»، أن المواطنين باتوا يشعرون بأنهم هم من يبحثون عن الرقابة وليس العكس، في إشارة إلى غياب آليات واضحة لضبط السوق أو منع التلاعب بالأسعار،
ويؤكد أن استمرار هذا الوضع يضع المرضى، ولاسيما أصحاب الأمراض المزمنة، أمام خيارات قاسية، تتمثل إما في الإهمال العلاجي وإما التخلي عن احتياجات أخرى من ميزانية الأسرة.
ويشير إلى أن الأزمة «لم تعد مرتبطة بارتفاع الأسعار فقط، بل بعدم وجود معايير موحّدة أو جهة تضمن العدالة بين الصيدليات، الأمر الذي يترك المرضى في حالة مطاردة يومية للدواء المناسب بالسعر الأقل»،
ويرى أن جذور الأزمة تتصل بغياب سياسات دوائية واضحة، وعدم دعم الصناعة المحلية، وترك السوق لآليات العرض والطلب في ظرف اقتصادي هش، مطالباً بخطة وطنية لإعادة بناء الثقة، تبدأ بدعم الإنتاج المحلي وتنظيم الاستيراد، وتنتهي برقابة حقيقية لا تعتمد على شكاوى المواطنين فحسب.
من جانبه، يبرّر الصيدلي سامر العلي أن جذور الأزمة أعمق بكثير من مجرد الحديث عن هوامش الربح، ويُرجع المشكلة الحقيقية إلى بنية سوق الدواء نفسها،
مشيراً إلى أن غياب بدائل وطنية كافية يُعدّ أحد أبرز أسباب الاضطراب الحالي، فالكثير من الأصناف المستوردة بات نادراً أو يرد بكميات محدودة، ما يمنح بعض الموردين قدرة شبه احتكارية على تحديد الأسعار والتحكم بتوافر الدواء.
ويتابع العلي أن الصيادلة يُحمّلون ظلماً مسؤولية ارتفاع الأسعار، فيما يقوم الواقع على سلسلة معقّدة تبدأ من الشركات المستوردة والموزعين وتكاليف النقل والشحن، وصولاً إلى توفر المادة الطبية الأساسية، وكل هذه العوامل تتبدل باستمرار، ما يجعل الأسعار غير ثابتة وتتغير تبعاً للمصدر وظروف الاستيراد، لا لرغبة الصيدلي أو تقديره الشخصي.
كما يشير إلى أن بعض التجار والموردين يستغلون حاجة المرضى، ولا سيما في الأدوية المزمنة التي لا يمكن الاستغناء عنها، إذ تُطرح في السوق بكميات محدودة وبأسعار أعلى من المحدد رسمياً،
ويؤكد في حديثه لصحيفة “الثورة السورية”، أن الصيدليات تجد نفسها محاصرة بين التزاماتها المهنية وواقع السوق المضطرب، فلا تملك سوى بيع الدواء بالسعر الذي يصلها من الجهات الموردة، من دون القدرة على التدخل أو خفض الأسعار.
مشكلة تسعير أم غياب سياسة دوائية؟
من جهة أخرى، أوضح مدير دائرة الرقابة الدوائية في إدلب، الدكتور وجدي سليم، لصحيفة “الثورة السورية”، أن تحديد أسعار الأدوية يخضع لآلية رسمية واضحة تشرف عليها لجنة علمية مختصة تابعة لدائرة الرقابة الدوائية في مديرية الصحة،
وتصدر اللجنة نشرة أسعار دورية تُوزّع على الصيدليات والمستودعات لاعتمادها أساساً للتسعير، مؤكداً أن أي مخالفة لهذه الأسعار تُعدّ تجاوزاً للقوانين الناظمة لقطاع الدواء.
وفيما يتعلق بجودة الأصناف الدوائية، أشار سليم إلى أن الأدوية المنتجة داخل إدلب تمر بسلسلة إجراءات ترخيص دقيقة، تبدأ بمعايير التصنيع داخل المصانع المحلية، مروراً بتحليل كل دفعة في مختبرات المصنع، ثم إجراء فحوص إضافية في مخابر البحوث والرقابة الدوائية،
وبعد طرح الأدوية في السوق، تخضع لبرنامج “التيقّظ الدوائي”، الذي يتولى رصد أي شكاوى أو تقارير حول عيوب محتملة، عبر رابط إلكتروني وخط “واتس آب” مخصّص لهذا الغرض.
أما فيما يخص توافر البدائل الوطنية، فيوضح سليم أن السنوات الأخيرة شهدت اهتماماً متزايداً بتوسيع قطاع التصنيع الدوائي المحلي وزيادة عدد المصانع المرخّصة، ما أسهم في توفير أصناف أساسية ضمن ما يُعرف بـ”الصناعات العامة”،
ومع ذلك، لا تزال بعض الأدوية المعقّدة، مثل علاجات السرطان والأمراض النادرة، تعاني نقصاً واضحاً بسبب صعوبة إنتاجها محلياً أو محدودية توفرها عبر الاستيراد.
وينوّه سليم إلى أن دائرة الرقابة الدوائية، بالتعاون مع نقابة الصيادلة، تنفّذ جولات تفتيش دورية لضبط أي تجاوزات في الأسعار أو استغلال لحاجة المرضى، موضحاً أن العقوبات تتدرج من الإنذار إلى الغرامة، وقد تصل إلى إغلاق الصيدلية في حال تكرار المخالفة أو العمل من دون ترخيص،
كما يتيح النظام الجديد للمواطنين تقديم شكاوى مرفقة بصور الدواء والسعر المدفوع، ليجري التحقيق فيها وإلزام الصيدلية بإعادة المبلغ للمشتري عند ثبوت المخالفة.
وفي إطار الجهود الرامية إلى تحسين واقع الدواء، يذكر سليم أن وزارة الصحة أطلقت خلال عامي 2024 و2025 برنامجاً لدعم الصناعة الدوائية المحلية، بهدف تقليل الاعتماد على الأدوية المستوردة أو المهرّبة،
ما قد يسهم تدريجياً في خفض الأسعار، كما يجري تحديث نشرة الأسعار الرسمية بشكل مستمر لتعكس تكاليف الاستيراد ومتغيرات الأسواق.
ويقرّ سليم بأن التحديات لا تزال قائمة، وفي مقدمتها نقص بعض الأصناف الحسّاسة وتأخر دخول الشحنات عبر المعابر، إضافة إلى ارتفاع تكاليف الاستيراد التي تُبقي الأسعار مرتفعة رغم وجود تسعيرة معتمدة.
الثورة السورية– هدى الكليب













