محليات

كرة تضخّم متدحرجة.. الغلاء يأكل زيادات الرواتب!

تفاقم ارتفاع الأسعار في سوريا يحوّل زيادات الرواتب إلى وهمٍ رقمي، ويعمّق الفجوة المعيشية وسط سياسات ترفع الدعم وتزيد اختلال العدالة الاجتماعية.

داخل أحد المحال التجارية الصغيرة في إحدى ضواحي دمشق، وقف أبو محمد، وهو ناطور بناء قيد الإنشاء، منتظراً دوره لشراء بعض الحاجيات الأساسية لعائلته.

سأل عن سعر ليتر الزيت النباتي، ثم عن السكر والأرز، لكنه اكتفى، في النهاية، بشراء كيلو لبن فقط. لم يكن الرجل يبالغ حين قال: «راتبي لم يزدد ليرة واحدة، لكن الأسعار قفزت بشكل غير مفهوم. حتى أبسط ما يحتاجه الأولاد، صار رفاهية».

تعبير أبو محمد، على بساطته، يلخّص مأزقاً معيشيّاً متفاقماً، ركيزته ارتفاع الأسعار على نحو غير متناسب مع أيّ تحسُّن في الدخل، وفجوة متزايدة بين ما يجنيه الناس وما يُطلب منهم إنفاقه من أجل البقاء؛ وهي فجوة لا يمكن تفسيرها فقط بمفهوم التضخّم، بل بالسياسات التي تقف وراءه.

والواقع أن للمشكلة وجهَين متكاملَين: الأول، أن تحسين الدخل اقتصر على شريحة محدودة من العاملين في مؤسسات الدولة، عبر زيادات في الرواتب لم تلحق بمتوسّط تكلفة المعيشة، فيما بقيت شرائح واسعة من العاملين في القطاع الخاص أو الأعمال غير النظامية من دون أيّ تعديل؛

علماً أن نسبة العاملين المدنيين في مؤسسات الدولة لا تشكل سوى 15% من إجمالي عدد المشتغلين والمتعطّلين من العمل.

أمّا الوجه الثاني، فهو التوجّه الحكومي نحو تعديل أسعار السلع والخدمات الأساسية، سواء عبر تقليص دعمها أو إعادة تسعيرها وفقاً لكلفة السوق، ما أدى إلى موجة غلاء جديدة وضعت معظم السلع خارج متناول فئات واسعة.

في خلفية هذا المشهد، بدا لافتاً تبنّي الحكومة الحالية، في مرحلة انتقال اقتصادي حسّاسة، المقاربة نفسها التي سادت لسنوات سابقة، وقوامها رفع تدريجي للدعم في مقابل تحسين محدود للأجور؛ وهي مقاربة تستند إلى منطق مالي يعدّ ضبط العجز أولوية آنية، لكنها تتجاهل أثرها الاجتماعي الطويل الأمد.

فرفع الدعم في ظلّ اقتصاد هشّ وبنية سوق غير متوازنة، لا ينتج إصلاحاً، بل يعمّق الفوارق الطبقية ويعيد توزيع الدخل نحو الأعلى، أي نحو القادرين على امتصاص الصدمات السعرية.

الموظفون ليسوا المقياس الوحيد

أحد أكثر الأمثلة وضوحاً على تلك المقاربة، رفعُ تعرفة الكهرباء أخيراً بنسب كبيرة. ورغم أن الخطاب الرسمي ركّز على كون الأسعار الجديدة لا تزال «مدعومة نسبياً»، إلّا أن الانعكاس الفعلي على موازنات الأسر كان قاسياً.

وبحسب دراسة موجزة لرجل الأعمال فيصل العطري، فإن فاتورة استهلاك الكهرباء قد تلتهم ما يقارب 39% من راتب الموظف المتوسط. لكن النقاش العام ظلّ أسير المقارنة بين دخل الموظف وكلفة المعيشة، متجاهلاً أن أكثر من نصف القوّة العاملة السورية تقريباً خارج هذا التصنيف.

فماذا عن العاطلين من العمل، أو العاملين بأجور متقطّعة؟ الجواب يقود إلى مؤشّرَين جوهريَّين: البطالة والأمن الغذائي. تشير تقديرات اقتصادية إلى أن معدّل البطالة تضاعَف خلال الأشهر الماضية، مقارنةً بما كان عليه قبل عامين، متأثّراً بموجات التسريح في قطاعات إنتاجية وخدمية واسعة.

وتقدّر مصادر رسمية وغير رسمية نسبة البطالة بما لا يقلّ عن 50% إلى 60% من إجمالي القوى العاملة، مقارنة بحوالى 23% في عام 2023، وهي نسبة كافية لتفسير هشاشة الطلب المحلي وتآكل القاعدة الاستهلاكية.

وفي ظلّ غياب شبكات حماية اجتماعية فعّالة، يصبح أيّ تعديل في الأسعار مسألة حياة يومية بالنسبة إلى الأُسر، لا مجرّد خبر اقتصادي.

ويعقّب فادي، الموظّف في مؤسسة عامة، على المتغيّرات السعرية الأخيرة، بالقول: «ما نسمعه من وعود جميل، لكن كلّ تعديل في الأسعار يجعلنا نعيد حساب كل شيء، من التدفئة إلى الطعام. الزيادة التي نحصل عليها تتبخّر قبل نهاية الأسبوع»؛

وهو ما يحيل على إشكالية مستمرّة عنوانها: أيّهما أولى؟ ضبط العجز المالي أم حماية القدرة الشرائية؟ الإجابة ليست حسابية. فحين ترفع الأسعار قبل تأمين مصادر دخل بديلة، يتحوّل الإصلاح المالي إلى عبء اجتماعي.

وتشير البيانات الرسمية المتاحة إلى الآن، إلى أن نحو 9% فقط من الأسر السورية قادرة على تأمين احتياجاتها الغذائية بشكل مستدام، فيما تعاني البقية من درجات متفاوتة من فقدان الأمن الغذائي،

ما يعني أن أيّ ارتفاع جديد في أسعار المواد الأساسية، سيؤثّر مباشرة في نحو 90% من الأسر، عبر تقليص سلّة استهلاكها أو دفعها إلى خيارات مؤلمة مِن قَبيل بيع الأصول المنتجة، أو إخراج الأطفال من المدارس، أو الهجرة الداخلية نحو المدن بحثاً عن فرص دخل أعلى.

وبالفعل، فإن ثلث الأسر على الأقلّ لجأت، خلال العام ما قبل الماضي، إلى بيع أدوات الإنتاج الصغيرة (ماكينات خياطة، دراجات، معدات زراعية)، وهو سلوك يعكس تآكل رأس المال الصغير في المجتمع.

عامل تضخّمي متسلسل

لا تقتصر تداعيات رفع الأسعار على الأسر الفقيرة أو المحدودة الدخل؛ فكلّ زيادة في سعر سلعة مدعومة، تتحوّل سريعاً إلى عامل تضخّمي متسلسل: المنتجون والمستوردون والتجّار.

حتى مَن لم تتأثّر كلفة إنتاجهم مباشرة، يعيدون تسعير بضائعهم بناءً على التوقّع العام لارتفاع الكلف. وهكذا، تتشكّل «كرة نار» من الأسعار المتدحرجة، يشارك في إشعالها الجميع بحكم منطق السوق لا النيّة.

لكن كان أمام صانعي القرار خيار آخر، أقلّ تكلفة وأكثر اتّساقاً مع تجارب الإصلاح في الدول الخارجة من أزمات: تحسين البيئة الإنتاجية أولاً، خلق فرص عمل حقيقية عبر إعادة تشغيل القطاعات الصغيرة والمتوسطة،

وبناء شبكة دعم نقدي مباشر للفئات الأضعف، قبل التفكير في إعادة تسعير السلع والخدمات. هذا التسلسل لا يلغي الحاجة إلى إصلاح الدعم، لكنه يجعل نتائجه أقلّ فداحة وأكثر قابلية للتحمّل.

فالإصلاح الاقتصادي لا يُقاس بسرعة تنفيذه، بل بمدى قدرته على خلق استقرار اجتماعي يرافق التحوّل المالي.

إلا أن المقاربة الحالية بدت معاكسة، إذ تمّ تقديم الإجراءات المالية على السياسات الإنتاجية، ورفع الأسعار قبل خلق بدائل دخل، ما جعل الأثر الاجتماعي مضاعفاً.

ويُخشى أن يؤدّي الاستمرار في هذا الاتجاه إلى إعادة إنتاج نموذج الاقتصاد الريعي بطريقة جديدة، حيث تتكدّس الموارد في يد القادرين على الوصول إلى الأسواق والفرص، فيما يُترك الباقون في الهامش.

الأخبار- رمضان الحكيم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى