
في قلب غوطتي دمشق الشرقية والغربية، ترك السلاح الكيماوي الذي استخدمته سلطة النظام البائد أثره العميق على حياة الناس، مخلفاً ذكريات مأساوية وقصصاً يصعب نسيانها،
ورغم ذلك قاوم أبطال هذه القصص اليأس وأمسكوا بخيوط الأمل بعد تحرير البلاد لبناء حياة جديدة عسى أن تعيد العدالة الانتقالية لهم حقوقهم.
عدد من الناجين من مجازر الكيماوي في ريف دمشق، وصفوا بعضاً من المشاهد والأحداث التي مروا بها خلال تلك الجرائم التي لا تموت فوصفوا تجربتهم الشخصية مع الألم والمعاناة اللذين ظهر أثرهما عليهم جسدياً ونفسياً.
الطفل كرم ومعجزة الحياة
في ذلك اليوم الأسود من آب 2013، كانت جودي مخيبر طفلة في العاشرة من عمرها حين غطّت مادة الكيماوي سماء معضمية الشام بريف دمشق، ووسط حالة من الخوف والاختناق، لفظ شقيقها الرضيع كرم أنفاسه الأخيرة بين يدي أمّه،
وظنّ الجميع أنّه رحل بلا عودة، غُسّل وكُفّن مع الشهداء، لكن بينما كانوا يتهيؤون لدفنه، عطس فجأة وعاد الطفل إلى الحياة، وكانت تلك المعجزة التي أعادت الأمل لبيت محاصر بالموت.
وصفت جودي تلك اللحظة بأنها نقطة فاصلة في حياتها وقالت: “نحن عائلة ماتت ثم عاشت من جديد”، ومن هذه التجربة المريرة حملت جودي رسالة واحدة وهي أن تتمسّك بالحياة رغم كل شيء،
لهذا قررت أن تدرس اللغة الإنكليزية كي توصل قصتها إلى العالم، لتقول إن السوريين، مثل أخيها كرم، يستطيعون أن ينهضوا من تحت الركام، ويعيشوا من جديد.
محمد وفاجعة زملكا
محمد سليمان مسعف ميداني وجد نفسه في ليلة 21 آب 2013، عند تعرض بلدة زملكا لهجوم بالسلاح الكيماوي، أمام مشهد يفوق الوصف قائلاً: “مئات من المصابين ممدّدون على الطرقات بين البيوت والشوارع، فيما سيارات الإسعاف قليلة والطريق إلى المشافي محفوف بالقصف، يوم لا يوصف، العائلات تختنق، والناس تسقط بشكل جماعي، لم أرَ سابقاً أي إصابة أو جرح كهذا”.
ليعود سليمان إلى منزله المزدحم يومها بخمسةٍ وأربعين شخصاً من أقاربه وعائلات مستضافة، ويعيش لحظات من الرعب بين محاولة إسعاف الآخرين والبحث عن عائلته، لكن الفاجعة وقعت “والده، وأخوه، وزوجة أخيه وطفلاهما استشهدوا جميعاً في تلك الليلة”، ومنذ ذلك الحين، صار كل ما يذكّره بلون أصفر أو كلمة “كيماوي” يفتح جراحه من جديد.
وخضع سليمان لاحقاً لعلاج نفسي في الشمال السوري عبر بعض المنظمات، لكن آثار التجربة ظلت ترافقه، وخاصة أنه عاش أيضاً تجربة اعتقال مهينة أثناء دراسته الجامعية، ما زاد من صعوبة تجاوز الصدمة.
وقال سيلمان: “إن هذه المحنة غيّرت كل حياتي، يجب إنقاذ الأرواح رغم كل شيء”، متمنياً بعد هذه السنوات لأطفال سوريا حياة كريمة آمنة، بعيداً عن الحرب والكيماوي، في وطن يحترم كرامة الإنسان من خلال محاسبة عادلة.
ناديا وفقدان الابنة
وسط الغبار والدمار في مدينة دوما، حيث وقع الهجوم الكيماوي الذي قلب حياة الناس رأسا على عقب تصف ناديا الشيخ فقدانها لابنتها في ذلك اليوم قائلة بصوت يختنق بالدموع: “بنتي الكبيرة، إيمان، كانت كل حياتي، يوم الهجوم كانت مع زوجها، حاولوا يهربوا بالسيارة، بس الصاروخ الكيماوي نزل قدامهم، ما لحقت توصل ع المستشفى، راحت من بين إيدينا بسرعة، متل الحلم اللي بينقطع فجأة”.
أحمد… صوت ضحايا الكيماوي
أحمد عبد النافع، متطوّع سابق مع الدفاع المدني السوري المعروف سابقاً باسم “الخوذ البيضاء”، اكتشف خلال تواصله المستمر مع جميع المسعفين لتنسيق عمليات الإنقاذ في ظل القصف والهجمات الجوية لطيران النظام البائد، في 6 نيسان 2018 بمدينة دوما، حدوث هجوم كيماوي من خلال وجود مصابين في المكان ورائحة تشبه الكلور.
وقال عبد النافع: “وجدت صعوبة بالتعامل مع المصابين، خصوصاً النساء والأطفال، الذين لم نتمكن من إسعافهم بالكامل بسبب شدة الضربة وصعوبة الوصول إليهم، لأجد نفسي من بين المصابين بعد استنشاق كمية كبيرة من غاز الكيماوي”.
ويؤكد عبد النافع أن تلك المشاهد ما زالت تتكرر في ذهنه، ولم يستطع تجاوزها، ما اضطره لاحقاً للعلاج النفسي لفترة سنة كاملة بعد تهجيره، وبرغم ذلك، انتقل إلى تركيا لاستكمال دراسته الجامعية في الإعلام، ليتعلّم كيفية إيصال قصص المدنيين الذين عاشوا الحصار والهجمات بأسلوب إنساني وواقعي، ليوثق المأساة وليستطيع إيصال صوت ضحايا الكيماوي والحصار بدون محو أثرهم.
وأشار عبد النافع إلى الآثار الصحية التي تركها الهجوم الكيماوي على جسده، فهو يعاني منذ خمس سنوات من مشاكل في الرئة والتهاب مجرى الأنف بسبب استنشاق الغازات، ويتلقى علاجاً مستمراً لهذه المشاكل، مع ذلك، يرى أن هذه التجربة، رغم الألم والصدمة، صقلت شخصيته ومهدت له الطريق للعمل الإنساني والإعلامي معاً.
وتعد مجزرة الكيماوي واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبها النظام البائد بحق المدنيين في غوطتي دمشق عام 2013، في هجومٍ مباغت استخدم فيه غاز السارين المحظور دولياً، ما أدى إلى ارتقاء وإصابة الآلاف من الأهالي في تلك المناطق.
سانا













