
تُعدّ الثروة السمكية واحدة من الموارد الطبيعية الحيوية في سوريا، لما لها من دور في دعم الأمن الغذائي، وتزخر السواحل السورية بالعديد من أنواع الأسماك البحرية ذات القيمة الغذائية والاقتصادية العالية، إلى جانب الثروات السمكية في المسطحات المائية الداخلية.,
وفي ظل التحديات الاقتصادية الراهنة، تكتسب هذه الثروة أهمية متزايدة كمصدر للدخل وفرص العمل، ولاسيّما في المجتمعات الساحلية والريفية.
ورغم ما تواجهه هذه الثروة من صعوبات تتعلق بالتغيرات المناخية، وملوثات البيئة، وممارسات الصيد الجائر، إلا أن جهوداً متواصلة تُبذل من أجل تنميتها والحفاظ عليها عبر خطط وطنية تدعم الاستدامة البيئية والاقتصادية لهذا القطاع الحيوي.
لمن استطاع مادياً
رغم توفر السمك في اللاذقية، إلا أن الإقبال على شرائه لايزال خجولاً، فهو وجبة دسمة على الجيوب، وأسعاره بعيدة عن متناول الكثيرين رغم وفرة الموارد البحرية في المحافظة.
السيدة إلهام- موظفة وأم لثلاثة أطفال لم يألفوا بعد طعم السمك لعدم تناوله إلا نادراً، فهي وزوجها من ذوي الدخل المحدود الذي لا يسمح لهم بشرائه كوجبة مشبعة لأكثر من مرة في العام حتى للنوع الرخيص.
أما أحمد، فقد رأى أن تناول وجبة السمك ضرب من الرفاهية لا يمكن جعله ضمن قائمة الطعام، كون أسعاره مرتفعة، ويستعيض عنه بعلبة التونة، أو السردين.
ورأى غسان- وهو تاجر، أن تناول السمك ضروري كونه غذاءً صحياً ومفيداً، والمدن الساحلية مشهورة بالسمك، إلا أن تناول وجبة بحاجة لمدخول مرتفع ويحتاج لتوابع من طرطور ومقبلات وتحضير، لتصبح أقل وجبة سمك للنوع المتوسط منه تكلّف ما يفوق 300 ألف ليرة سورية.
وباستطلاع لأسعار السمك في السوق تراوحت الأنواع الغريبة مثل “العصيفري” من 25 إلى 30 ألف ليرة حسب الحجم والجودة، وكانت سابقاً من 125 الى 150 ألفاً، أما السلطاني البلدي فيبدأ من 300 الى 350 ألفاً، وكان سعره سابقاً قبل التحرير نحو المليون ليرة سورية للكيلو الواحد،
أما سمكة الفرّيدة واللقز اليوم تباع من 250 الى 300 ألفاً، بعد أن فاقت المليون ليرة سورية للكيلو الواحد، والأجاج من 70 إلى 80 ألفاً، وكان سابقاً 200 ليرة سورية، والبلميدا كان 120 ألف ليرة وحالياً 25 ألفاً.
المستورد ينافس المحلي
رئيس جمعية الصيادين في اللاذقية نبيل فحام أكد لـ”الثورة” أن واقع الصيد حالياً هو أفضل مما كان عليه قبل التحرير، وكانت هناك أنواع للصيد ممنوعة، إلا أن الصيد الآن مسموح دون قيود، مشيراً إلى أن حركة البيع والشراء بالنسبة للصيادين جيّدة وحسب العرض والطلب في المزاد العلني، إلا أن هناك أسماكاً غريبة غير معروفة المصدر تباع حالياً بأسعار أقل من السمك المحلي، وهو ما يجعل هناك معاناة للصيادين في بيع صيدهم بربح مجدٍ.
وأضاف: الموسم الحالي جيد ولا مانع من وجود منافسة كونها تجعل هذه الوجبة في متناول المواطنين، وتوفير السمك المستورد في الأسواق بأسعار رخيصة يحسّن البيئة البحرية، كون ربحه لا يناسب الجهد، والابتعاد عن الصيد الجائر ولو لمدة سنتين يوفر السمك بأعداد كبيرة.
ونوّه فحام بأن واقع الصيد حالياً أفضل وتكاليفه أقل لتوفر المازوت بسعر أرخص من السابق، وكذلك مستلزمات الصيد انخفض سعرها مما ساهم في خفض سعر السمك.
وعن تكاليف الصيد الإضافية أشار فحام إلى وجود ضرائب بين 75 الى 150 ألف ليرة سنوية، وكذلك تذكرة صيد بـ 200 ألف ليرة
واقع الثروة السمكية
وللوقوف على واقع الثروة السمكية أكاديمياً، والأبحاث العلمية عنه التقينا رئيس قسم الإنتاج الحيواني في كلية الهندسة الزراعية بجامعة اللاذقية الدكتور مالك فارس علي، موضحاً أن الثروة السمكية بالسنوات الأخيرة توجهت الأنظار إليها لأكثر من سبب، منها: غناها بالبروتين الحيواني الذي يشكّل أهمية تغذوية عالية، وخصوصاً أنه يحتوي على أحماض أمينية غير ممكن تأمينها من مصادر أخرى حيوانية، بالإضافة للقيمة الغذائية العالية للأسماك من خلال احتوائها على أحماض دهنية غير مشبعة وغناها بالأوميجا 3 وأهميته الغذائية عالمياً،
وتقدّر الحاجة من لحوم الأسماك بتسعة كيلوغرامات للفرد الواحد سنوياً، وبعض الدول المتقدمة وصل استهلاك الفرد فيها من 24 الى 25 كلغ سنوياً، بينما الدول النامية أقل من /٩/كلغ للفرد، أما حصة الفرد في سوريا فهي أقل من 1 كلغ سنويا ويدخل فيها الحصص من الاستيراد وعلب التون والسردين.
ضيق الرصيف القاري
ولفت الدكتور علي إلى أن المشكلة الأساسية في الثروة السمكية تتجسد بطبيعة الرصيف القاري الموجود في الساحل السوري، ووفق المواصفات العالمية فالرصيف القاري في الدول المتقدمة واسع، حيث يصل ببعض الدول إلى 15 كيلو متراً و 20 كيلو متراً، أي يحتل مساحة كبيرة من المياه الإقليمية، بينما لدينا في الساحل السوري يضيق بالمتوسط ويكون ببعض الأماكن من 200 إلى 300م فقط.
ونوّه بأن هناك مشكلات في تأمين الثروة السمكية غير ضيق الرصيف القاري منها عدم المحافظة على الثروة السمكية، وتعريضها للصيد الجائر باستخدام وسائل ممنوعة دولياً مثل المتفجرات، المواد السامة، والشباك الصغيرة العيون والفتحات، والصيد في أوقات منع الصيد، والجرف الشاطئ، والجرف القاعي.
استزراع المسطحات المائية
وأضاف الدكتور علي أن كل هذه الأعمال السابقة جعلت الثروة السمكية تتدهور حتى عالمياً حيث البحار لم تعد قادرة على تلبية متطلبات البشر من لحوم الأسماك، وبالتالي عالمياً تم اللجوء الى استزراع المسطحات المائية، والمقصود به استزراع السمك والنباتات البحرية بالإضافة إلى زراعة القشريات والرخويات والمحار،
مضيفاً: بدأ الاستزراع السمكي منذ أكثر من نصف قرن بسوريا في المياه العذبة على السدود مثل سد النهر الكبير الشمالي، وفي بانياس مزرعة السن والقطاع الخاص لديه مزارع سمكية خاصة وهذا يساعدنا في دعم السوق بالأسماك، ومع ذلك مازال الإنتاج في سوريا أقل من المطلوب والاحتياجات.
مقترحات لتحسين البيئة البحرية
ورأى رئيس قسم الإنتاج الحيواني في كلية الهندسة الزراعية أن هناك العديد من الاقتراحات لتخفيف الضغط عن الصيد في البحار، منها التوسع في الزراعات بالبحار، ومنذ سنتين كان هناك فكرة استزراع المياه البحرية والدراسات جاهزة، بالإضافة للاستزراع بالمياه العذبة، وأهم مقترح للتخفيف من الضغط على الثروة السمكية تطبيق قوانين الصيد بحسم، كمنع الصيد في الأشهر الممنوع فيها، تحديد فتحات الشباك، وعدم السماح بالجرف القاعي وهو مهم جداً.
وهناك قرارات سابقة حسب الدكتور علي لمنع الجرف القاعي ومنع التجاوزات التي تتم بمعدلات عالية، ففتحات شباك الصيد في الجرف القاعي تصل لـ 40 ملم ويتم الجرف فيها لمسافات معينة مثل 5 كيلو متر أو 10 كيلو مترات، لكن الصياد لدينا يبدأ بالجرف من 20 ملم بدلاً من 40 ملم بشبكات الصيد وكل ما يتم صيده يتجمع بمؤخرة الشبكة، وتصبح مصمتة، أي تصبح فتحات الشباك صغيرة، وكل ما يدخل يصبح داخل الشباك ولو كان بيض صغير، أي تجمع كل ما في الجرف القاعي
وبالتالي تدمير الثروة السمكية خصوصاً إذا كان الصيد بشكل يومي وعدد مراكب الصيد كبير، فمثلاً تتحمل البيئة الساحلية خمسة مراكب صيد بمعدل شهرين في السنة، ولكن في الواقع هناك 20 مركباً خلال 12 شهراً بالسنة، وهذا كفيل بتدمير الثروة السمكية.
ويؤكد الدكتور علي أن التجاوز الأخطر من الجرف القاعي هو الجرف الشاطئ الذي يكون على الشاطئ الذي هو أغنى منطقة في مكونات البيئة البحرية، وعندما يكون الجرف عليها يصبح هناك تخريب للبيئة البحرية حتى الصياد يساهم في تدمير البيئة عندما يصطاد /١٠/كيلو سمك إذا استمر على هذا السلوك فستتناقص كمية الأسماك التي يصطادها حتى يصل لمرحلة لا يجد ما يصطاده الصياد، وبالتالي يخسر مهنته، ويدمر البيئة البحرية، وحتى عالمياً الكثير من المصائد عندما يكون هناك صيد جائر يتم إيقافها وإغلاقها عدة سنوات لتعيد ترميم نفسها.
الموانئ تتحمل مسؤولية تدمير البيئة البحرية
وأعاد الدكتور علي مسؤولية الصيد الجائر وتدمير البيئة البحرية للموانئ بالدرجة الأولى كونها صاحبة السلطة بتطبيق القانون، إضافة لمشرعي القانون في الهيئة العامة للثروة السمكية والباحثين الأكاديميين الموجودين بالجامعة أيضاً مسؤولين عنها، مشددا على ضرورة حماية البيئة البحرية من التخريب ليس فقط من الصيد، بل من النشاطات البحرية المتنامية كتجريف الرمال عن الشط وبالتالي تخريب البيئة ولا تجد الأسماك الموطن المناسب لها وتهجر المنطقة إلى منطقة أخرى وتتكاثر فيها ، وكذلك تنامي النشاطات البشرية كالبناء على شط البحر وهذا ينتج عنه بالإضافة للتلوث السمعي والبصري التلوث الكيميائي حيث المخلفات الناتجة عن النشاط البشري ترمى في البحار من دون معالجة،
ونحن في مدينة اللاذقية لدينا 27مصباً للصرف الصحي يصب في البحر من دون معالجة وهذا أكثر الأضرار تخريباً للبيئة البحرية، ويفترض أن يكون هناك محطات معالجة تعالج وتصرّف البحر بعيداً عن الشرط بمسافة لا تقل عن 500 متر، من أجل أن تشتتها الأمواج وتوزعها ولا تتركها مركّزة في مكان واحد.
ويرى أن البيئة البحرية عندما تتدهور تصبح ضعيفة ومعرضة لغزوات الكائنات البحرية الموجودة في مناطق أخرى، وبالفترة الأخيرة زادت الغزوات البحرية لأنواع غريبة للحوض الشرقي للمتوسط وليس فقط في سوريا بل في مصر، لبنان فلسطين، تركيا، اليونان.
وفي سوريا سجلت أكثر من 115 نوعاً غريباً في المياه السورية بالسنوات الأخيرة نتيجة ضعف البيئة البحرية، وأصبح هناك أنواع جديدة نسميها غريبة تنافس الأنواع القديمة، والبعض منها جيّد من الناحية التغذوية، ولكن بعض الأنواع سامة.
التشدد بحماية البيئة البحرية
وعن الحلول المناسبة لتحسين البيئة البحرية مستقبلاً أوضح الدكتور علي أننا بحاجه لتأمين الدعم المادي للصيادين وعمل يستقرون به مثل تأمين مداجن تنتج الفروج بدل صيد السمك لتحسين البيئة البحرية وتخفيف الضغط عنها وتحسين مواصفاتها، والأهم التشدد بالقوانين والأنظمة التي تحمي البيئة البحرية.
ولفت إلى أنه في السنوات الأولى يجب السماح باستيراد الأسماك لمدة سنتين أو ثلاث لأنواع أسماك رخيصة لمنافسة الصيادين الذين يصطادون بتكاليف عالية، فعندما نؤمن السمك بسعر أرخص يعزف الصيادون عن المغامرة بالتكاليف العالية،
وأيضاً التوسع بإنشاء المحميات البحرية، حيث لدينا محمية بحرية بسوريا مساحتها بنحو 3 كيلو متر مربع فقط برأس ابن هاني، والمفترض أن يكون لدينا أكثر من خمس محميات بحرية، والبدء بالاستزراع بالمياه المالحة أو البحرية، والاستثمار فيها والتوسع بالاستثمار بالمياه العذبة وتقديم التسهيلات للمربين.
298 نوعاً
ولفت الدكتور علي إلى أن كمية الإنتاج كان 15 مليون كيلو سنوياً بالمياه العذبة لأنواع الكارب والمشط والسلور، وهناك 298 نوعاً من الأسماك البحرية في إحصائية أجريتها في عام 2018 منها 42 نوع أسماك غضروفية والتي تضم القرش والقوابع والشغانين والكاميران، وبقية الأنواع العظمية
وهناك أنواع جديدة دخلت وخلال وقت قصير أثبتت وجودها وأصبحت تصطاد بطرق اقتصادية وتسمى غريبة منها سمكه السلطان الأسود التي تم تسجيلها في عام 2016 كأول ظهور لها، وسمكه اليون والسمكة الشائكة، مشيراً إلى تراجع للعديد من أنواع السمك مثل اللقز، الفريدي، نتيجة الصيد الجائر وهي مهددة بالانقراض.
لا يمكن إغفال الدور الحيوي للبيئة البحرية والأسماك في دعم الصحة والاقتصاد، ولابدّ من مضاعفة جهود جميع المعنيين للحفاظ على بيئة آمنة، وزيادة الاستثمار في الاستزراع السمكي كونه لدينا العوامل الأساسية التي تؤهلنا لتوفير هذه المادة الغذائية العالية الفوائد والممكن توفيرها للمواطنين بالحصة الغذائية عالميا، والاستثمار فيها اقتصادياً.
صحيفة الثورة