
قد تُفاقم التكنولوجيا من استغلال العمل وتردي ظروفه. سيُستخدم الذكاء الاصطناعي لزيادة الأرباح على حساب كرامة الإنسان. وإذا تركناه من دون مقاومة، فلن تفاجئنا النتائج: قلة تجني الفوائد، وأكثرية تتحمل الأعباء.
في هذه المقالة، يرد آرون بيناناف على ادعاءات الموجة الحماسية التكنولوجية الجديدة، والتي يراها ناتجة عن التقدم السريع في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، بقيادة شركات مثل “OpenAI”، و”Google DeepMind”، و”META”.
ويفند بيناناف الخطاب الرأسمالي المنتشر، بزعامة إيلون ماسك، وسام ألتمان الرئيس التنفيذي لـ “OpenAI”، وغيرهما من رجال أعمال وادي السيليكون، الذين يبشرون بنهاية سيادة البشر على الوظائف أو الحاجة إليهم للعمل.
ويوضح بيناناف في مقاله المنشور على موقع “Versobooks” أن كل تلك التنبؤات مألوفة، فهي تكرر نفس خطاب الأتمتة الذي نقده في كتابه “الأتمتة ومستقبل العمل”. ويعود ذلك إلى أن هذا الخطاب يتخيل التكنولوجيا هي من يعيد تشكيل المستقبل البشري، بينما يحجب البنى الاجتماعية التي تشكل هذا التغيير التكنولوجي. وهنا نص الترجمة العربية بتصرف:
“منذ صدور كتاب “الأتمتة ومستقبل العمل”، اجتاحت موجة جديدة من الحماس التكنولوجي المخيلة الشعبية، وكان محركها هذه المرة هو التقدّم السريع في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، بقيادة شركات مثل “OpenAI”و”Google DeepMind” و”Meta”. ومرة أخرى، يرتفع صوت جوقة من التنفيذيين في وادي السيليكون، والمستثمرين البارزين، والصحhفيين المؤثرين، لتؤكد أننا على أعتاب تحوّل تاريخي.
هكذا يدّعي سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة “OpenAI”، أن الذكاء الاصطناعي سيحل مشكلات كبرى كإصلاح المناخ، واستعمار الفضاء، واكتشاف القوانين الكاملة للفيزياء، واعداً بالانتقال إلى عصر من الازدهار الشامل.
أما إيلون ماسك، الملياردير الذي يملك “Tesla” و”SpaceX“، فيحذّر من أن الذكاء الاصطناعي يمثل التهديد الأكبر للوجود الإنساني، وفي الوقت ذاته الطريق إلى وفرة لا تُتصوّر، متنبئاً بأن الروبوتات البشرية ستتجاوز عدد البشر بحلول عام 2040.
أما مارك أندريسن، المستثمر المعروف، فيعلن أن الذكاء الاصطناعي “سينقذ العالم”، في حين يقدم المعلق الليبرالي عزرا كلاين، نسخة أكثر نعومة من سردية اليوتوبيا الآلية في كتابه الأخير “الوفرة”، داعياً إلى إزالة العقبات التنظيمية وزيادة دعم الدولة للبحث والتطوير لتسريع التقدّم التكنولوجي.
ورغم حداثة هذه التنبؤات، إلا أنها مألوفة إلى حدّ كبير. فهي تكرّر، بصيغة محدثة، السردية نفسها التي تناولتها في كتابي: سردية مستمرة تتخيّل التكنولوجيا تغيّر الحياة البشرية بشكل مستقل، بينما تغضّ الطرف عن البُنى الاجتماعية التي تنغرس فيها عمليات التغيير التكنولوجي.
ما لم يحدث: تفنيد خرافة زوال الوظائف
في قلب خطاب الذكاء الاصطناعي اليوم، تكمن مزاعم دراماتيكية حول اضطراب سوق العمل والبطالة التقنية. ففي عام 2023، نشر باحثون مرتبطون بـ “OpenAI” وجامعة بنسلفانيا دراسة تقول إن 49% من مهام العمال مهددة بالنماذج اللغوية الكبيرة، ما يشير إلى تحول وشيك في العمل عبر قطاعات كالتعليم والخدمات القانونية.
هذا التنبؤ يشكل تحديثاً مباشراً لدراسة كارل بنديكت فري ومايكل أوزبورن عام 2013، والتي أثارت حينها موجة من القلق بشأن الأتمتة، عبر زعمها أن 47% من الوظائف الأميركية مهددة بالتعلّم الآلي.
لكن من المفيد تذكّر ما حدث بعد تلك التنبؤات. فبين عام 2013 و2020، لم تظهر أي كارثة في سوق العمل. بل قامت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) بإعادة تحليل أساليب الدراسة، وخلصت عام 2017 إلى أن 14% فقط من الوظائف تواجه خطراً كبيراً من الأتمتة. وبحلول عام 2020، ثبت أن هذه النسبة أقل حتى من المتوقع. فالوظائف التي قيل إنها مهددة – مثل إعداد الطعام، وتشغيل الآلات، والقيادة – لم تتقلص بل نمت.
لقد فشلت هذه التنبؤات بسبب عيوب جوهرية في مناهجها. إذ لم تُبنَ على تحقيقات ميدانية أو على فهم حقيقي لسير العمل أو السياقات المؤسسية، بل استندت إلى آراء خبراء حول “قابلية” المهام للأتمتة من الناحية النظرية، من دون أي اعتبار لكيفية تجميع المهام داخل المهن، أو للتكاليف والعوائق المؤسسية والسياسية. إنها نماذج ميكانيكية للتغيير التكنولوجي، تفترض أن إحلال الآلات للعمال يتم تلقائياً، متى ما أصبح ذلك ممكناً تقنياً، متجاهلة الواقع المعقد لتنظيم العمل وتحوّله.
الواقع في العقد الماضي كان مغايراً: الروبوتات الصناعية، رغم انخفاض أسعارها، بقيت محصورة في قطاعات محدودة مثل صناعة السيارات، حيث كانت بالفعل مستخدمة منذ التسعينات. تكاليف البرمجة والتكامل والصيانة غالباً ما تكون أعلى بثلاثة أضعاف من سعر الروبوت نفسه، ما يعني أن الشركات الكبرى فقط يمكنها تحمّلها. أما الشركات الصغيرة والمتوسطة، فلا تجد مبرراً اقتصادياً كافياً لأتمتة عملياتها. لكن ماذا عن الروبوتات في قطاع الخدمات؟ لا تزال حلماً أكثر منها واقعاً.
لفهم حدود الأتمتة، يجب وضعها في السياق الهيكلي الأكبر للاقتصاد العالمي. فمنذ السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، تراجع التصنيع كقوة دفع للنمو، لتحل محله اقتصاديات الخدمات، التي يعمل فيها اليوم بين 75 و90% من العاملين في دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. الإنتاجية في هذه القطاعات أقل بكثير، بسبب طبيعتها الكثيفة باليد العاملة وصعوبة مكننتها. ومع تضخّم هذه القطاعات، تباطأ النمو الإنتاجي، وظهرت ملامح ركود اقتصادي مزمن.
ما شهدناه لم يكن اختفاءً للعمل، بل تحوّلاً فيه. حتى عندما أُدخلت تقنيات جديدة، استمرت الوظائف، لكنها تغيرت من الداخل. لم تُلغَ المهن، بل أعيد تشكيل المهام داخلها. لا يوجد عتبة مثل “50% من المهام مؤتمتة” تؤدي تلقائياً إلى زوال وظيفة. بل تتكيّف القوى العاملة، وتتطور الأدوار، وتستمر المهن بأشكال جديدة. أما نمو القطاعات أو تراجعها، فلا يعتمد فقط على التكنولوجيا، بل على الظروف الاقتصادية العامة.
حتى المهنة نفسها قد تختلف جذرياً من بلد إلى آخر. بناء سيارة يختلف في مصنع “فولكسفاغن” الألماني مقارنة بورشات “فيراري” الإيطالية أو مصانع “BYD” في الصين. صناعة السينما، مثلاً، تتنوع في هوليوود، وبوليوود، ونوليوود، بحسب الثقافة والتنظيم التقني والاقتصادي. التكنولوجيا لا تغيّر العمل تلقائياً، بل يتم تشكيلها جماعياً بحسب ما تقبل به المجتمعات.
الذكاء الاصطناعي التوليدي: تعميق التفاوت بدلاً من تجاوز الركود
على مدى الزمن، ارتبطت الرقمنة بالارتقاء في المهارات، لكن الاتجاه الأحدث يظهر العكس: تدهور المهارات. فمثلاً، خدمة “أوبر” أزالت الحاجة إلى الخبرة التي كانت تميز سائقي الأجرة، واستبدلتها بنظام ملاحة. في الوقت ذاته، زادت الرقمنة من قدرة أصحاب العمل على المراقبة. وظائف مثل قيادة الشاحنات التي كانت صعبة المتابعة أصبحت الآن مراقبة إلكترونياً باستمرار، ما يسمح للشركات بخفض الأجور وتقليص الحرية المهنية.
التكنولوجيا ليست محايدة. طريقة نشرها وتأثيرها على العمل تُحدَّد في سياقات سياسية ومؤسسية. يمكن للحكومات أن تنظم المراقبة، ويمكن للنقابات أن تفرض ضوابط، ولكن في غياب هذه الجهود، تسهم التكنولوجيا في تدهور شروط العمل وتفاقم التفاوت الاقتصادي.
بعد خيبة الأمل من الأتمتة، تحوّلت الأنظار إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي، تُضخ الآن مليارات الدولارات في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي وبناء مراكز البيانات لتشغيلها. الغاية الكبرى؟ ثورة في قطاع الخدمات، ورفع الإنتاجية في مجالات مثل التعليم والصحة والتجزئة والضيافة – وهي القطاعات التي عجزت عن مواكبة التطورات الإنتاجية.
لكي تُحقق هذه الاستثمارات أرباحاً، ينبغي أن تقفز الإنتاجية إلى معدلات لم تُشهد منذ أيام اليابان أو الصين في القرن الماضي. لكن الهوة بين التوقعات والواقع لا تزال شاسعة. القيود البنيوية للذكاء الاصطناعي أصبحت أوضح. فالنماذج اللغوية تعاني الهشاشة، وتعجز عن التعميم خارج بيانات التدريب، وتفشل في مهام منطقية أساسية. رغم استهلاكها الهائل للبيانات، تبقى قدراتها محدودة.
التصميم المعماري للشبكات العصبية الاصطناعية – المستوحى من علم النفس السلوكي في منتصف القرن العشرين – يفتقر إلى البنية الغنية للعقول البشرية. لا يوجد حتى الآن طريقة موحدة لتصميم الذكاء المركب أو الإدراك البنيوي داخل الأنظمة، ولا يوجد ما يضمن إمكانية تحقيق ذلك.
حتى بعض القادة الكبار مثل ساتيا ناديلا من “مايكروسوفت”، اعترف بأن الاستثمارات الضخمة في “OpenAI” لم تُترجم حتى الآن إلى نمو إنتاجي ملموس. لو كان الذكاء الاصطناعي “تحويلياً”، لكان الاقتصاد العالمي ينمو بشكل أسرع – لكن هذا لم يحدث. التقارير في “وول ستريت جورنال” و”فايننشل تايمز” تؤكد أن الشركات تكافح لتطبيق هذه النماذج بشكل واسع بسبب عدم موثوقيتها.
بدلاً من التسبب في بطالة جماعية، الأثر الأرجح للذكاء الاصطناعي التوليدي سيكون استمرار الاتجاهات القائمة: تدهور المهارات وزيادة المراقبة. تشير الدراسات إلى أن الذكاء الاصطناعي يفيد بشكل أكبر العمال ذوي المهارات المنخفضة، بينما لا يُحسّن الأداء في الوظائف المعقدة. لذا، من المتوقع أن يؤثر على وظائف مثل البرمجة والتصميم والبحث القانوني عبر تقديم بدائل “متوسطة الجودة”، ما يضعف القيمة المهنية لأصحاب الكفاءة المتوسطة.
في الوقت ذاته، تتيح النماذج الجديدة أدوات متقدمة لرصد الموظفين، وتحليل البيانات الرقابية لفرض مزيد من الانضباط وخفض الأجور. وبدل أن تحررنا من العمل، قد تُفاقم هذه التكنولوجيا من استغلال العمل وتردي ظروفه. من دون أطر قانونية واجتماعية قوية، سيستخدم الذكاء الاصطناعي لزيادة الأرباح على حساب كرامة الإنسان.
الدرس من العقد الماضي واضح: التهديد ليس في زوال العمل، بل في تدهوره. التكنولوجيا ليست قَدَراً محتوماً؛ بل عملية يمكن توجيهها سياسياً ومجتمعياً. الأطر القانونية، والمفاوضات الجماعية، والاستثمار العام، والتنظيم الديمقراطي – كلها تحدد كيف تُطوّر التكنولوجيا وإلى أي غاية.
ما نشهده الآن هو توجه يخدم أرباح الشركات لا رفاه الإنسان. وإذا تركناه من دون مقاومة، فلن تفاجئنا النتائج: قلة تجني الفوائد، وأكثرية تتحمل الأعباء. لكن يجب ألا يكون الأمر كذلك. المستقبل لا يزال مفتوحاً، ويعتمد على استعدادنا الجماعي لتحدي هذا المسار وإعادة تشكيله.
المطلوب اليوم ليس انتظار ما سيفعله الذكاء الاصطناعي بنا، بل تقرير ما نريد نحن أن نفعله به. يجب أن نقيس التقدّم التكنولوجي لا بالعائدات المالية، بل بمدى إسهامه في بناء عالم أكثر عدالة وإنسانية. الفصل الأخير من الأتمتة ومستقبل العمل يبدآن في استكشاف ما قد يتطلبه هذا المشروع.
الميادين