محليات

هل تعود الخطوط الحديدية السورية إلى الحياة؟

في قلب دمشق، حيث اعتادت القطارات قديماً أن تطلق صافرة الانطلاق، تظهر هذه القطارات كقطع حديد منسية بصمت، تدل على عربات مهجورة منذ سنين طويلة، تحمل فقط حكايات الزمن القديم التي يرويها سكان دمشق لأبنائهم عندما كانوا يتنقلون من مقعد لآخر أثناء رحلاتهم عبر قطارات محطة القدم.

أكثر من عقدٍ مرّ على غياب القطارات عن المشهد السوري اليومي… سنوات مضت تهدمت خلالها البنى التحتية، وتوقفت الرحلات، وباتت محطات القطار مكاناً عديم الحركة، وهو ما يمكن أن يراه أي زائر لمحطة القدم، التي كانت يوماً ما صلة الوصل بين دمشق والمدينة المنورة.

من هنا مرّ القطار الحجازي

في عام 1908، انطلق أول قطار من دمشق إلى المدينة المنورة عبر الخط الحديدي الحجازي مروراً بمحطة القدم، ثاني أهم محطات السكك الحديدية في سوريا، لم تكن مجرد نقطة توقف، بل مركز صناعي حيوي يضم معامل صيانة وتصنيع متكاملة، ساهمت في دعم شبكة المواصلات الإقليمية بين سوريا والأردن وفلسطين وفق العم أبو مالك /مازن الملا/ العامل في المحطة.

العم أبو مالك الذي عمل سائقاً للقاطرات البخارية في المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي منذ أكثر من أربعين عاماً، أوضح في حديثه لـ سانا أن محطة القدم التي تأسست قبل أكثر من قرن، كانت تحتضن بين جنباتها معامل خراطة وصب وحديد، وورشات لتصنيع قطع الغيار الخاصة بالقاطرات، في منشأة تضاهي نظيراتها في أوروبا آنذاك.

لغة البخار

بعيون مملوءة بشغف العودة، يستعيد أبو مالك ذكرياته داخل المحطة.. “هنا عمل جدي، ومن بعده والدي، وأنا كبرت بين هذه السكك، تعلمت لغة البخار، وصوت العجلات على القضبان كان موسيقا صباحاتي اليومية”.

يتابع الملا حديثه بحزن واضح على الفقدان: آخر رحلة كانت في تشرين الثاني عام 2011 إلى عمان، ثم توقف كل شيء…. عندما عدنا 2017، وجدنا القاطرات مدمرة، والمحطة شبه خالية.. ورغم الدمار، حاولنا العمل بهدوء لإعادة إحياء ما يمكن، لكن لم تكن هناك استجابة واضحة بسبب سياسات حكومية إدارية قاتلة أيام النظام البائد.

اليوم، تعمل المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي على إعادة تأهيل أربع قاطرات بخارية، وتم تنفيذ تجربة تشغيل ناجحة لقطار نزهة بين الربوة ودمر، كبداية لمسار أكبر قد يعيد عجلة القطارات إلى الدوران.

محطة القدم.. مجمع صناعي نادر

المؤرخ المعماري المهندس محمد البارودي يذكر في حديثه لمراسلة سانا أن محطة القدم ليست فقط معبراً لسكك الحديد، بل مجمع صناعي نادر، بمساحة تتجاوز 2 كيلومتر مربع، حيث كانت تضم أكبر معامل صيانة القاطرات في المنطقة، وتحاكي في بنيتها منشآت صناعية أوروبية من أوائل القرن العشرين.

ويقول البارودي حول ذلك: “نحن أمام منشأة تاريخية، إرث لا يقدّر بثمن، محطة القدم قادرة على أن تتحول إلى معلم سياحي وصناعي يجذب الاستثمارات، ويعيد للسكك الحديدية السورية دورها الريادي”.

ويرى البارودي أن المكان لا يحتاج فقط إلى ترميم حجارة، بل إلى إعادة بث الحياة في ذاكرة وطن، ويضيف: “لقد كانت المحطة شاهدة على إبداعات الصناعة السورية، ويجب أن تبقى شاهدة على نهوضها من جديد”.

إرادة لا تصدأ

في عام 2008 احتفلت المحطة بمرور مئة عام على أول رحلة منها إلى المدينة المنورة، كانت ذكرى حيّة لزمن ازدهرت فيه السكك الحديدية وتحركت المدن فيه على صوت القطارات، وفق البارودي، مبيناً أنه بعد سنوات الحرب، تعود الورشات اليوم بهدوء إلى العمل، والعاملون القدامى يشرفون على ترميم القاطرات القديمة بعزيمة لا تزال مشتعلة رغم كل شيء.

إعادة تأهيل السكك الحديدية ليست مجرد ترميمٍ لماضٍ غابر، بل مشروع استراتيجي يعكس رؤية مستقبلية للنقل في سوريا، فمع تصاعد الحاجة إلى بدائل نقل اقتصادية وصديقة للبيئة، تبرز السكك الحديدية كخيار واعد يعزز الترابط بين المدن ويخفف الأعباء على الطرق البرية.

ويؤكد القائمون في المحطة أن ما يُبنى اليوم في صمت، سيتحول غداً إلى شريان حيوي يسهم في تحريك عجلة الاقتصاد، وتنشيط السياحة، وتحقيق الربط الإقليمي مع دول الجوار، إنها إرادة وطنية تتجاوز إعادة الإعمار، لتخطّ مساراً جديداً نحو تنمية شاملة مستدامة.

أكبر محطات الخط الحديدي الحجازي

مدير الجر والآليات في الخط الحديدي الحجازي محمود زركلي بيّن أن محطة القدم أكبر وأهم محطات الخط الحديدي الحجازي، إذ تضم معامل لتصنيع القطارات وتشكل مركزاً أساسياً في شبكة النقل السككي،

لافتاً إلى أن المؤسسة تعمل حالياً على إعادة تأهيل المحطة ودراسة كل مرافقها بشكل شامل، بما في ذلك البنية التحتية، والخطوط الداخلة والخارجة، إضافة إلى المعامل والورشات الفنية الموجودة داخلها.

ويشير زركلي إلى أن الدراسات الجارية تشمل أيضاً مشروع قطار الضواحي التابع للمؤسسة، والذي أُنجز جزء من مخططه، ويتألف من أربعة محاور رئيسية للنقل:

  • الحجاز – دمر – قدسيا – الهامة
  • الحجاز – القدم – الكسوة – دير علي
  • الحجاز – القدم – قطنا
  • الحجاز – القدم – مطار دمشق الدولي

ويوضح زركلي أن محطة القدم تعرضت للتخريب وانهار جزء من مبانيها، إلا أن المؤسسة تعمل حالياً على إعادة تأهيل تلك المباني والمنشآت الحيوية لاستعادة دورها ضمن منظومة النقل السككي في سوريا.

من ركام الحرب يولد الأمل

صحيح أنك اليوم لا تسمع صوت القطار بعد في محطة القدم، لكنك تشعر بأن الأرصفة ما زالت تنتظر… حديد القطارات لم ينسَ الطريق ولا سائقوها نسوا مقاعدهم، ومن وسط هذا الركام يعود الأمل اليوم بعد تحرير البلاد والبدء بمرحلة الإعمار… فهل تعود السكك الحديدية السورية إلى الحياة؟.

سانا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى