
جلست امرأة في بهو مستشفى المواساة الجامعي بدمشق، تمسك بيد والدها السبعيني، بينما تتنقّل بين أقسام المستشفى بحثاً عن جهاز تخطيط القلب.
الرجل الذي تجاوز الثانية والسبعين من عمره بدا متعباً من الدوران الطويل بين الممرات المزدحمة، لكن ابنته أصرت على إجراء الفحص في المكان الذي تعرفه منذ سنوات، حيث “المواساة”، المستشفى الأكبر والأقدم في سوريا والذي تأسس عام 1946 ويعد من الركائز الطبية الرئيسية في العاصمة.
تقول منيرة السيد بحسرة لـ”العربي الجديد”: “أدخلت والدي لإجراء تخطيط قلبي، فطلبوا منا العودة بعد ساعة لأن الجهاز مشغول، ثم عادوا وقالوا إنه بحاجة إلى صيانة، وبعد ساعات قيل لنا إن الجهاز عاد للعمل، فأجرينا التخطيط لكنهم طلبوا إعادته لأن الصورة غير واضحة… سبع مرات أعدنا الفحص، وفي النهاية قالوا لا يمكن اعتماد النتيجة!”،
تتنهد السيدة وهي تضيف أن والدها، الذي يعاني من ضعف في عضلة القلب وضغط مزمن، اضطر في النهاية إلى مغادرة المستشفى دون أن يحصل على تقرير واضح لحالته، “مع أنه من غير المعقول أن يعجز أكبر مستشفى في دمشق عن إجراء تخطيط بسيط لمريض مسن”، تقول بغضب مكتوم.
داخل أروقة المستشفى، يقرّ الأطباء والممرضون بأن الأجهزة “قديمة ومستهلكة”، وبعضها يعمل فوق طاقته منذ سنوات دون صيانة كافية، فيما تتكدّس الحالات الطارئة أمام غرف الفحص، ويُطلب من المرضى الانتظار ساعات وربما أياماً لإجراء تصوير أو تحليل بسيط.
وتعد هذه القصة واحدة من عشرات الحالات التي توضح حجم الضغط على أقسام التشخيص في المستشفى، والتي يعاني منها كبار السن بشكل خاص، حيث تتطلب حالتهم متابعة دقيقة وسريعة لتجنب أي مضاعفات.
تغادر منيرة السيد ووالدها وهي تردد بمرارة: “ما نحتاجه ليس الرفاهية، فقط الحد الأدنى من العناية… تخطيط قلب لرجل عمره 72 عاماً في مستشفى وطني عريق، هذا كل ما طلبناه”
وفي الوقت نفسه، قدمت فضة الأبرش من الحسكة إلى قسم الإسعاف بعد شعورها بأعراض طارئة، ووصفت تجربتها بأنها محايدة، رغم التحديات التي واجهتها “الطاقم كان متعاوناً وأعطاني التعليمات اللازمة، رغم الانتظار الطويل بسبب ازدحام المرضى”،
ويعمل قسم الإسعاف في المواساة على استقبال جميع الحالات من البسيطة إلى الجراحية المعقدة والحروق والترميم، ويستوعب يومياً مئات المرضى من مختلف المحافظات، ما يخلق ضغطاً كبيراً على الأجهزة والكوادر الطبية، ويعكس حجم التحديات اليومية التي يواجهها أكبر مستشفى في سورية.
فالازدحام المستمر لا يقتصر على المرضى فحسب، بل يمتد إلى الطاقم الطبي الذي يسعى لتقديم الرعاية الصحية تحت ظروف عمل صعبة، في وقت تتزايد فيه الحالات الطارئة بسبب الأحداث الأخيرة في البلاد، بما فيها حالات النزوح والعودة بعد التحرير.
النظافة والمعقمات: تحديات إضافية
داخل مستشفى المواساة الجامعي بدمشق، تُظهر الأرضيات النظيفة والممرات المرتبة المظهر الرسمي للمستشفى، لكن خلف الكواليس يواجه الفريق تحديات كبيرة للحفاظ على مستوى النظافة المطلوب، خاصة مع نقص المعقمات والمواد التعقيمية الأساسية، ما يؤثر بشكل مباشر على جودة التعقيم وسلامة المرضى.
تقول إحدى الممرضات التي تعمل في قسم الإسعاف: “لدينا ضغط هائل من المرضى يومياً، وفي بعض الأيام يكون من الصعب الحفاظ على النظافة المثالية، رغم أن الجميع يبذل جهداً كبيراً.”
ويضيف أحد موظفي الصيانة: “الأجهزة الطبية تعمل على مدار الساعة، وبعضها مستهلك منذ سنوات، مما يجعل تنظيفها وصيانتها تحدياً يومياً، خاصة مع قلة الموارد المتاحة للصيانة الدورية”.
قبل فترة، كان المستشفى يعتمد على عقود مع شركات نظافة اعتبرتها الإدارة “غير فعّالة”، ما دفعها إلى التعاقد مع عمال مياومة لضمان استمرار العمل.
ومع ذلك، تشير التقارير الداخلية إلى أن الضغط على الأقسام المختلفة يجعل عملية تنظيف وتعقيم الأجهزة والأسطح أكثر صعوبة من مجرد تنظيف الغرف، إذ يتطلب الأمر توازناً بين الحفاظ على تجهيزات العمل، والتعقيم الدوري، والإبقاء على مساحات المرضى آمنة، وهو ما يمثل تحدياً كبيراً في ظل الموارد المحدودة والازدحام المستمر.
تعكس هذه التجربة الجهود المستمرة للطاقم الطبي والعمال لتوفير بيئة آمنة للمرضى، رغم الإمكانيات المحدودة، وتسلط الضوء على جانب مهم في تقديم الرعاية الصحية حيث النظافة ليست مجرد ترتيب أرضيات أو أسطح، بل مرتبطة مباشرة بسلامة المرضى ومنع انتشار العدوى داخل المستشفى.
يقول محمد المسعود، أحد زوار مستشفى المواساة الجامعي، الذي جاء لمراجعة أحد أقاربه في قسم الإسعاف لـ”العربي الجديد”: “الوضع صعب بعض الشيء، النظافة في بعض الأقسام ليست كما ينبغي. الأرضيات والأسطح ليست معقمة دائماً، وبعض الأدوات الطبية تظهر عليها آثار الاستخدام دون تنظيف سريع. الطاقم يبذل جهداً، لكن عدد المرضى كبير جداً والمواد التعقيمية قليلة، لذلك من الصعب الحفاظ على مستوى نظافة مثالي”،
ويضيف: “لا ألوم أفراد الطاقم، فهم يعملون فوق طاقتهم، لكن من وجهة نظر الزائر، قلة النظافة تشعر المريض بعدم الاطمئنان، خصوصاً في مستشفى كبير مثل المواساة”،
تعكس كلمات محمد تحدياً يومياً تواجهه المستشفيات الكبيرة، حيث الازدحام ونقص الموارد يضعان ضغطاً مضاعفاً على جهود الطاقم للحفاظ على النظافة وسلامة المرضى.
أرقام وتحديات مستشفى المواساة الجامعي
بدوره قال مدير عام مستشفى المواساة الجامعي في دمشق، الدكتور أمين عبد اللطيف السليمان لـ”العربي الجديد”، إن المستشفى الذي يعد الأكبر في سورية منذ تأسيسه، يعمل بطاقة استيعابية تبلغ نحو 820 سريراً، ويقدّم خدمات طبية شاملة في مختلف الاختصاصات، إلى جانب قسم إسعاف قادر على استقبال ما بين 200 إلى 300 حالة يومياً،
لافتاً إلى أن العدد ارتفع بعد التحرير ليتراوح بين 800 و1000 حالة يومياً، معظمها سريرية. موضحا أن المستشفى يستقبل الحالات المرضية من جميع المحافظات،
ولا يقتصر الإسعاف على نوع محدد من الحالات، بل يتعامل مع جميع الحالات من البسيطة إلى الجراحية المعقدة والحروق والترميم، إضافة إلى الحالات الإسعافية الخطيرة التي تتطلب عناية مشددة أو غسيل كلى.
وأضاف: “المسؤولية كبيرة في ظل ضعف الإمكانات، إذ لا تتجاوز قدرة المستشفى على تقديم الخدمات سوى 10% من طاقته المفترضة، فمعظم الأجهزة الطبية مستهلكة أو خارج الخدمة، وبعضها تجاوز عمره الافتراضي وبات بحاجة إلى إصلاح أو تبديل كامل”،
مشيراً إلى أن التبرعات التي قدمتها بعض المنظمات لا تغطي سوى 5 أو 10% من حاجات المستشفى. وألمح إلى وجود نقص حاد في الكوادر الطبية والفنية، رغم أن عدد الأطباء الاستشاريين يبلغ 200، إضافة إلى نحو ألف طبيب قيد التخصص و1500 طبيب قيد التمرين قبل التخرج،
مبيناً أن نسبة إشغال الأسرة لا تقل عن 70% بشكل دائم. كما يضم قسم العناية المشددة القلبية والصدرية نحو 70 سريراً، وتُحال إلى المستشفى استشارات من مختلف المؤسسات الطبية الأخرى في دمشق.
وبيّن السليمان أن جميع الخدمات الصحية التي يقدمها المستشفى مجانية بالكامل، بما في ذلك الإقامة والمعالجة، وفي حال توفرت الأدوية في المستشفى يتم تقديمها للمرضى حتى وإن كانت مرتفعة الثمن، أما في حال عدم توافرها فعلى المريض تأمينها بنفسه.
ولفت إلى أن العيادات الداخلية والخارجية في المواساة تستقبل يومياً أكثر من 1000 حالة سريرية، في وقت تعاني فيه المؤسسة من عجز في عدد الموظفين، إذ تحتاج إلى نحو 2500 موظف فيما لا يتجاوز عدد العاملين حالياً 1500 موظف فقط،
مؤكداً أن هذا النقص يشمل التمريض والفنيين والعمال. وفي ما يتعلق بالنظافة، أوضح السليمان أن المستشفى أنهى عقوده السابقة مع شركات اعتبرها “فاسدة”، وتم التعاقد مع عمال مياومة بشكل مباشر لضمان استمرارية العمل وتحسين مستوى النظافة والخدمات.
وتحدث مدير المستشفى عن ترهل إداري وبيروقراطية موروثة ساهما في تفاقم الأزمات، موضحاً أن: “مشكلات كان يمكن حلها خلال أسبوع باتت تستغرق سنة كاملة بسبب التعقيدات الإدارية”،
مشيراً إلى أن ذلك تسبب أيضاً في رفع تكاليف الصيانة بشكل وهمي، كما حدث في قضية إصلاح جهاز المرنان المغناطيسي الذي ارتفعت تقديرات إصلاحه من 50 إلى 300 مليون ليرة نتيجة التأخير.
وكشف السليمان عن اعتماد آليات جديدة في العمل، تقوم على ثلاثة مسارات: الأول عبر تبرعات وجهود أهل الخير في الداخل والخارج، كما حصل مؤخراً حين تم إصلاح جهاز القسطرة خلال ساعتين فقط بكلفة 5000 دولار بعد توقف دام خمس سنوات،
أما الآلية الثانية فتعتمد على مراسلة وزارة الصحة لتأمين الموارد الممكنة، وفي حين تتمثل الآلية الثالثة باللجوء إلى الشراء المباشر أو الصيانة السريعة دون تأخير. مؤكدا أن إدارة المستشفى تعمل اليوم بشكل أكثر ديناميكية وتعاوناً مع باقي المستشفيات العامة،
مشيراً إلى تعاون مستشفى المجتهد الذي أرسل جهازاً بديلاً للقوسي بعد تعطل الجهاز في المواساة، “لتكون جميع المستشفيات كأنها مستشفى واحد، خدمةً للمريض أولاً وأخيراً”، على حد قوله.
وختم بالقول إن المستشفى يشهد ضغطاً متزايداً غير مسبوق، إذ يجري حالياً تصوير نحو ألف طبقي محوري خلال 12 ساعة فقط، وهو ما يعكس حجم الأعباء الهائل الملقى على المؤسسة ويجعل الكوادر الطبية والفنية في تحدٍ مستمر لتقديم الخدمات الصحية ضمن الإمكانيات المتاحة.
قصص المرضى والزيارات اليومية لأقسام مستشفى المواساة الجامعي تبرز حجم التحديات التي يواجهها أكبر مستشفى في سورية. من الانتظار الطويل لإجراء فحوص بسيطة لكبار السن، إلى الضغط الكبير على قسم الإسعاف، ونقص المعقمات الذي يؤثر على النظافة، كلها عناصر تكشف عن واقع صعب يعايشه الطاقم الطبي والمرضى معاً.
ورغم هذه الصعوبات، تُظهر إدارة المستشفى حرصها على تطوير العمل من خلال آليات صيانة سريعة، تعاون بين المستشفيات، والاستفادة من تبرعات أهل الخير، في محاولة للحفاظ على مستوى مقبول من الخدمة الصحية.
ويبقى السؤال الأكبر هو مدى قدرة النظام الصحي على تجاوز هذه التحديات وتوفير الرعاية المناسبة لجميع المواطنين، بحيث لا يبقى حجم الضغوط، سواء على المرضى أو على الكوادر الطبية، حاجزاً أمام تقديم الخدمات الأساسية.
العربي الجديد- عبد الله السعد














