
لماذا يعاني البعض أكثر من غيرهم حتى عندما تتساوى درجة الألم؟ يعكف فريق من الباحثين في الولايات المتحدة على محاولة الرد على هذا السؤال بعد أن توصلوا إلى وجود دائرة عصبية خفية داخل المخ تربط بين التجربة الحسية للشعور بالألم من ناحية، وبين الجانب الانفعالي أو المعاناة من الأوجاع من ناحية أخرى.
ويقول الباحثون من معهد “سالك” للأبحاث العلمية في ولاية كاليفورنيا الأمريكية أن هذه الدائرة العصبية هي التي تضخم الإشارات الخاصة بالألم داخل الجسم، وتحولها من شعور طفيف بعدم الارتياح إلى معاناة مزمنة،
وربما تكون هذه الدائرة هي الحلقة المفقودة التي تفسر بعض المشكلات الصحية مثل الألم العضلي الليفي والصداع النصفي واضطرابات ما بعد الصدمة، لاسيما عندما يستمر الشعور بالمحنة المقترن بالألم حتى بعد فترة طويلة من التماثل للشفاء.
وتسلط نتائج هذه الدراسة التي نشرتها الدورية العلمية Proceedings of the National Academy of Sciences الضوء على مجموعة من الخلايا العصبية في منطقة المهاد في منتصف المخ، بعدما تبين خلال اختبارات معملية على فئران التجارب أن هذه الخلايا هي التي تتحكم في الجانب الانفعالي للشعور بالالم.
ويرى الباحثون أن هذا الاكتشاف يطعن في النظرية العلمية القائمة منذ فترة طويلة بشأن طريقة تفسير المخ للشعور بالألم. ويقول رئيس فريق الدراسة سونج هان، وهو استاذ مساعد في معهد سالك، إنه “على مدار عقود، ظل الاعتقاد السائد أن المخ يعالج الجوانب الحسية والانفعالية للألم من خلال مسارات مختلفة”،
مضيفا في تصريحات للموقع الإلكتروني “سايتيك ديلي” المتخصص في الابحاث العلمية أن هذه الدراسة الجديدة تقدم دليلا قويا على أن المسارات الحسية للالم تؤثر بشكل مباشر على تجربة الألم الانفعالية لدى الانسان”.
ويوضح هان أن المسار الحسي للالم هو الذي يجعلنا نشعر بالأوجاع ونقيس درجة حدتها ومصدرها داخل الجسم، أما المكون الانفعالي، فهو ذلك الشعور بالضيق أو المعاناة الذي يواكب الاحساس بالألم، وهو الذي يساعد المخ على تكوين ارتباطات سلبية للألم حتى يعمل الانسان على تفادي التعرض لنفس التجربة في المستقبل.
ومن هذا المنطلق يؤكد الباحثون ضرورة التمييز بين الشقين الحسي والانفعالي للالم، لأن معظم البشر يتشابهون في درجة الشعور الحسي بالألم، ولكن درجة المعاناة أو الشعور بالخطر جراء هذا الألم هي التي تختلف من شخص لآخر لأنها تتحدد من خلال الشق الانفعالي، ولذلك من الضروري التعرف على أجزاء المخ التي تتحكم في مكونات الالم المختلفة.
وباستخدام تقنيات حديثة لقياس نشاط الخلايا العصبية، نجح الباحثون في تتبع مسار الألم داخل الجسم، حيث تبين أن الإشارة الخاصة بالألم تنتقل من النخاع الشوكي إلى اجزاء مختلفة من المهاد ومنها إلى اللوزة الدماغية، وهي المنطقة المسؤولة عن معالجة الانفعالات داخل المخ.
وقد تم تحديد هذه المجموعة من الخلايا في المهاد عن طريق رصد ما يعرف باسم “الببتيد المرتبط بجين الكالسيتونين” (سي.جي.أر.بي)، وهو نوعية من الأحماض الأمينية المرتبطة بمجموعة من الوظائف الفسيولجية داخل الجسم.
وعندما قام الباحثون بوقف عمل تلك الخلايا العصبية في المهاد، ظلت الفئران تشعر بدرجة محدودة من محفزات الألم المعتدل مثل الحرارة أو الضغط، مما يشير إلى سلامة الشق الحسي للألم، ولكن هذا الشعور بالوجع لديها لم يقترن بمشاعر انفعالية سلبية مستمرة، بمعنى أنها لم تظهر أي مؤشرات على الخوف أو تبدي محاولة لتجنب نفس المؤثرات الخارجية عند تكرار نفس التجارب المؤلمة فيما بعد.
ولكن عند تنشيط نفس الخلايا المهادية مجددا، بدأت تظهر على الفئران مؤشرات على الشعور بالمعاناة وصارت تحاول تجنب المؤثرات الخارجية المسببة للالم في التجارب التالية.
ويقول الباحث سوك جاي كونج، وهو أحد المشاركين في الدراسة إن “معالجة الالم لا تتعلق فحسب بالأعصاب التي تنقل الشعور بالأوجاع، بل تتعلق بطريقة فهم المخ لدرجة هذا الألم”
مضيفا في تصريحات لموقع “سايتيك ديلي” أن “التفسير البيولوجي لهاتين العمليتين المنفصلتين سوف يساعد في إيجاد علاجات لأنواع من الألم لا تستجيب للمسكنات التقليدية”.
وجدير بالذكر أن كثيرا من حالات الالم المزمنة مثل الصداع النصفي تتضمن تجارب معاناة طويلة لا تقترن في كثير من الأحيان بوجود إصابات أو مسببات واضحة للألم، بل أن بعض المرضى تظهر لديهم حساسية مفرطة تجاه مؤثرات مثل الضوء أو الصوت أو اللمس، في حين أن نفس المؤثرات الخارجية لا يكون لها تأثير مشابه على غيرهم.
ويرى هان أن النشاط المفرط لمسار الالم عبر النخاع الشوكي إلى المهاد ربما يسهم في حدوث حالات الألم المزمنة لأنه يجعل المخ يخطئ في تفسير المعطيات العصبية أو يبالغ في رد الفعل حيالها. وقد أثبتت الاختبارات أن هذه الخلايا العصبية في المهاد ترتبط بأوجاع الصداع النفسي وكثير من اضطرابات الالم الأخرى.
ويؤكد هان أن “اكتشاف مسار الألم عبر خلايا المهاد يعطي تفسيرا على مستوى الجزيئات والدوائر العصبية للمخ لأسباب الاختلاف ما بين الشعور بالألم والمعاناة من الالم، وربما يفسح المجال أمام سبر أغوار تلك المسارات بشكل أكبر في المستقبل واكتشاف علاجات جديدة للتخفيف من هذه المعاناة”.
د ب أ