محليات

غلاء الأسعار يهدّد عادة المؤونة في ريف حلب هذا العام

تمرّ الأيام مثقلة بالهموم المعيشية في قرى بيت حلب، إذ كانت أزقة القرى تعبق برائحة دبس الفليفلة والزيتون الأخضر والمكدوس في مثل هذا الوقت من كل عام،

لكن هذا الخريف يمرّ بصمتٍ ثقيل، بعدما غابت “المؤونة” عن معظم البيوت، لتتحول عادة توارثتها الأمهات جيلاً بعد جيل إلى ترفٍ لا يقدر عليه كثيرون.

في منزل صغير ببلدة دير جمال بريف حلب الشمالي، تجلس سكينة العلي أمام رفوف المطبخ الفارغة تقريباً، تتأمل أواني الزجاج القديمة التي كانت تمتلئ بالمؤونة في مثل هذا الوقت من العام.

تقول وهي تبتسم بحسرة لـ”العربي الجديد”: “كنّا نملأ الجرار بالزيتون والمكدوس والفليفلة الحمراء كل سنة، ورائحة المؤونة تفوح في أركان البيت، ويتساعد أفراد الأسرة في إعدادها.

أمّا الآن فصرنا نحسب كل كيلو قبل الشراء، فكيلو الفليفلة صار بـ25 ألف ليرة سورية، وتنكة الزيت فوق 900 ألف ليرة سورية. فمن أين لنا تأمين كل تلك الأموال؟”.

وتضيف أنه “في الأعوام السابقة كنت أحضّر مؤونة تكفينا للشتاء كلّه، أما الآن فحتّى المكدوس صار حلماً. كل شيء أصبح فوق قدرتنا المادية، حتّى الخضار والملح اللذان كنّا نعتبرهما أرخص الأشياء”، وتوضح العلي أن معظم جاراتها في الحي تخلّين عن إعداد المؤونة هذا العام،

مشيرة إلى أن “الأسعار تضاعفت ثلاث مرات مقارنة بالعام الماضي، بينما الرواتب والدخل ما زالا يراوحان مكانهما. لم يعد لدى الناس طاقة ولا أمل، والكل يحاول فقط أن يؤمّن قوت يومه”،

وتتابع: “صرنا نعيش يوماً بيوم، بلا شعور بالأمان. كنّا نشعر بالاطمئنان حين نرى المؤونة مرتبة على الرفوف، كأنّها ضمانة لشتاء قاسٍ وطويل، أما اليوم فلا مؤونة باقية ولا راحة بال”.

في سوق إعزاز الأسبوعي، حيث تتناثر أكياس الفليفلة والباذنجان على الأرصفة، بدا المشهد هذا العام أكثر ركوداً من أي وقت مضى.

وبحسب ما قاله البائع سليم الحمصي لـ”العربي الجديد”، فقد تراجعت حركة البيع كثيراً مقارنة بالسنوات السابقة، إذ كان التجار يبيعون في الماضي “أطناناً من الفليفلة يومياً خلال موسم المؤونة والمكدوس، بينما لا تتجاوز المبيعات اليوم بضع عشرات الكيلوغرامات”.

ويشير الحمصي إلى أن الزبائن باتوا “يمرون على المحالّ أكثر للنظر من الشراء”، مضيفاً أن الناس فقدت القدرة على تأمين احتياجاتها، ويؤكد أن المشكلة لا تقتصر على ارتفاع الأسعار فحسب، بل تتعداها إلى تراجع فرص العمل وانقطاع التحويلات المالية التي كانت تصل سابقاً من أقارب المغتربين في الخارج،

قائلاً إنّ كثيراً من العائلات “كانت تعتمد على تلك المساعدات لإعداد مؤونتها السنوية، أما اليوم فقد جفّت تلك المصادر تماماً”. وبحسب الحمصي، اضطر بعض الباعة إلى تخفيض كميات الشراء من المزارعين خوفاً من تلف البضاعة، مع غياب القدرة الشرائية لدى الأهالي وغياب أي مؤشرات على تحسّن قريب في السوق.

من جانبه، يرجع الخبير الاقتصادي وائل عبود في حديثه لـ”العربي الجديد”، أسباب غياب المؤونة عن بيوت الريف هذا العام إلى تدهور القوة الشرائية وارتفاع تكاليف الإنتاج الغذائي.

ويقول إن “الأسعار ارتفعت خلال العام الحالي بنسبة تتراوح بين 70 و100%، في حين بقيت الدخول شبه ثابتة، ما أدى إلى اتساع الفجوة بين الدخل والإنفاق على نحوٍ غير مسبوق”.

ويشير عبود إلى ارتفاع أسعار الوقود والغاز اللذين أثّرا مباشرةً على كلفة تحضير المؤونة، موضحاً أن “كلفة إعداد كمية بسيطة من المكدوس أو دبس الفليفلة أصبحت تفوق قدرة العائلة الريفية المتوسطة، التي تعيش غالباً على دخل يومي لا يتجاوز بضعة دولارات”،

ويضيف أن الأزمة المعيشية في مناطق ريف حلب “ليست ظرفاً طارئاً، بل نتيجة تراكمات طويلة من ضعف البنية الاقتصادية وغياب المشاريع الإنتاجية المحلية”، محذّراً من أن استمرار هذا التدهور سيؤدي إلى انكماش دورة الإنتاج الغذائي التقليدي التي كانت تشكل ركيزة الأمن الغذائي للأسر الريفية لعقود طويلة.

وتُعدّ المؤونة من أبرز العادات الريفية المتجذّرة في المجتمع السوري، إذ كانت العائلات تبدأ التحضير لها مع نهاية الصيف لتأمين احتياجات الشتاء من المكدوس واللبنة ودبس الفليفلة والزيتون وزيت الزيتون.

لكن الحرب والنزوح وارتفاع الأسعار وتدهور الليرة السورية عوامل مجتمعة جعلت هذا التقليد يوشك على الانقراض في مناطق كثيرة من ريف حلب، إذ تجاوزت كلفة إعداد مؤونة متوسطة الحجم أربعة ملايين ليرة سورية هذا العام، وهو ما يعادل راتب موظف لأشهر عدّة.      

العربي الجديد- هاديا المنصور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى