“شهادات للبيع”.. وجامعة خاصة في قفص الاتهام

في ملفّ يُعدّ من أكثر ملفات الفساد خطورة على مستقبل التعليم العالي، كشفت الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش في تقرير تفتيشي حديث وقائع فساد في إحدى الجامعات الخاصة.
الجريمة تمثلت في تزوير أوراق امتحانية ومنح شهادات جامعية لأبناء متنفّذين وتجار مخدرات، الأمر الذي قد يجعل قطاع التعليم العالي في مواجهة أزمة ثقة عميقة.
الهيئة- وبحسب تقرير لها، حصلت وكالة سانا على نسخة منه، ونشرتها- أحالت جميع المسؤولين عن التزوير، ومعهم أربعة عشر طالباً، حصلوا على شهادات من دون وجه حق إلى القضاء المختص، مع قرار صريح بإلغاء الشهادات وإبطال أي أثر قانوني لها، كما أوصت بمطالبة وزارة التعليم العالي بالتعويض عن الأضرار المادية والمعنوية،
وطالبت وزارة المالية بالحجز الاحتياطي على أموال مالكي الجامعة لضمان استرداد مبلغ قدره مليار وأربعمائة وثمانية وأربعون مليون ليرة سورية. في هذا التحقيق الصحفي نحاول معرفة خطورة هذا الملف بالنسبة للجامعات السورية، وللمجتمع، ولسوق العمل.
طعنة في قلب الجامعة
يصف الدكتور “ع. م” الخبير في مجال الإدارة، القضية أنها طعنة في قلب المؤسسة الجامعية، لأن الجامعة هي المكان الذي يُفترض أن يكون منارة للعلم والجدارة، فإذا تحولت إلى سلعة تُباع شهاداتها لمن يملك النفوذ أو المال، فإننا نفقد أحد أعمدة الدولة الحديثة، الأمر لا يتعلق فقط بأشخاص نالوا شهادات وهمية، بل بثقة المجتمع كله في التعليم،
وفي قيمة الجهد والمثابرة، فالطالب المجتهد الذي يسهر الليالي يقرأ ويكتب ويبحث، سيشعر بالإهانة حين يرى زميله يحصل على الشهادة عبر تزوير أو واسطة. ويشدد الدكتور “ع. م” على أن القضية يجب أن تُستثمر كفرصة لإعادة النظر في منظومة الرقابة الداخلية للجامعات الخاصة والعامة، وأن الحزم القانوني وحده لا يكفي، بل نحن بحاجة إلى ثقافة جامعية جديدة قائمة على الشفافية.
التعليم العالي هو الضحية
أما الدكتور “سامر. ح. ا” أستاذ في كلية الهندسة الميكانيكية بجامعة دمشق، فذهب أبعد من ذلك، معتبراً أن الفساد التعليمي أخطر من أي فساد مالي، فحين يُسرق المال يمكن تعويضه، لكن حين يُسرق العلم، فإننا نواجه جيلاً بأكمله يتخرّج بغير استحقاق، ويدخل سوق العمل من دون كفاءة، هذا الفساد يخلخل البنية الاجتماعية، لأنه يزرع شعوراً بالظلم، ويؤسس لثقافة، مفادها أن النفوذ أهم من الجهد.
ويضيف:الطلاب المتورطون هنا لم يؤذوا أنفسهم فحسب، بل أضروا بآلاف الطلاب الآخرين الذين تساوت شهاداتهم الحقيقية مع شهادات وهمية، وأضروا بسمعة التعليم السوري في الخارج، فنحن بحاجة إلى إعادة الاعتبار لقيمة الشهادة الجامعية السورية، عبر محاسبة صارمة، وإصلاح عميق يطال سياسات القبول والامتحانات والتقييم.
صوت الطلاب
في أروقة جامعة دمشق، لم يخف طلاب كثر صدمتهم من الفضيحة، يقول الطالب “م. س” (سنة ثانية- حقوق): نحن نتعب كثيراً لننجح بالمواد، ونبذل جهدا لكل نجاح نحققه، وحين نسمع أن هناك طلاباً حصلوا على شهادات جاهزة مقابل تزوير، نشعر أن كل هذا الجهد بلا قيمة، ولو لم يكن هناك كشف ومحاسبة، لكنا فقدنا الأمل نهائيا في أن للجهد والمعرفة معنى.أما الطالبة “س. ع”، (سنة ثالثة- اقتصاد)، فتصف الأمر بأنه انتهاك لحقوق الطلبة أنفسهم.
وتضيف: تخيل أن تتقدم إلى وظيفة، فيفضَّل شخص آخر لأنه يحمل شهادة مزوّرة من جامعة معروفة! كيف يمكن أن نثق بسوق العمل في هذه الحالة؟ نحن نطالب أن يُعلن للرأي العام أسماء المتورطين، لأن التكتّم على هذه الفضائح يفتح الباب لمزيد من الفساد.
سوق العمل يدفع الثمن
في المقابل، يرى رجال أعمال أن الضرر يمتد ليصيب الاقتصاد الوطني مباشرة، يقول رجل الأعمال الدكتور ياسر أكريم: عندما أبحث عن موظفين، أريد الكفاءة والخبرة، لكن إذا كانت الشهادات الجامعية لا تعبر عن مستوى حقيقي لحاملها، فسأضطر لإنفاق وقت ومال إضافي للتأكد من كفاءة كل موظف، أو لاستقدام خبرات من الخارج.
وأضاف: هذه ليست مشكلة فردية، بل خسارة وطنية، إذ إن انعدام الثقة بالشهادة السورية يجعل المستثمرين أقل استعداداً للتعاون مع خريجينا.
ويتابع: أخطر ما في الأمر أن الفساد التعليمي يخلق بيئة عمل هشة، يدخلها أشخاص بلا كفاءة، فيرتكبون أخطاء مكلفة، وفي النهاية يدفع السوق كله، الشركات، الزبائن، وحتى الدولة، الثمن.
فرصة إصلاح
القضية التي فجرتها الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش ليست مجرد حادثة عابرة، بل هي مرآة تعكس أزمة عميقة مرت بها الجامعات الخاصة خلال سنوات حكم النظام المخلوع، لكنها- وبحسب خبراء- تمثل أيضاً فرصة لإعادة الاعتبار لمفهوم التعليم كقيمة وطنية لا كسلعة قابلة للبيع.
فالرقابة الصارمة، وتفعيل المساءلة، ومشاركة الطلاب والأساتذة في حماية نزاهة العملية التعليمية، جميعها خطوات ضرورية لإعادة الثقة.
الدكتور “أ. ع” ، المدرس في قسم المكتبات بجامعة دمشق، يلخص الأمر بقوله: المعركة الحقيقية ليست فقط ضد أربعة عشر طالباً، أو إدارة جامعة متورطة، بل ضد ثقافة الفساد التي تتسلل إلى كل مفصل من مفاصل الحياة، إذا نجحنا في تنظيف التعليم، فإننا نؤسس لجيل قادر على بناء وطنه بجدارة.
لنا رأي
فضيحة الجامعة الخاصة التي هزت الرأي العام السوري مؤخراً، لم تكن مجرد قصة فساد مالي، بل قضية تتعلق بالهوية الوطنية وبمستقبل البلاد، فالتعليم هو عماد التنمية، وإذا فقد المجتمع ثقته بالشهادة الجامعية، فإننا نفقد أحد أهم مقومات النهوض.
القضية الآن بين يدي القضاء، لكن أعين السوريين وآمالهم معلقة على نزاهة القضاء وعدم التساهل في أي قضية فساد، وخاصة في قضايا التعليم، كي نصل إلى تعليم نظيف، يعكس فعلاً قيم العدالة والكفاءة.
الثورة – هلال عون