اقتصاد

دَولَرة الحياة اليومية.. سوريا على خطى لبنان والعراق!

تسارع تحوّل الاقتصاد السوري نحو الدولرة يكشف فقدان الثقة بالليرة، ويهدّد بفقدان أدوات السيادة النقدية وتحويل الاستقرار المؤقّت إلى تبعية مالية دائمة.

وقف أمين أمام واجهة إحدى وكالات بيع الأجهزة الخلوية في منطقة أبو رمانة في دمشق، متأمّلاً سعر الهاتف الذي قرّر شراءه. لم تكن المعضلة بالنسبة إليه في اختيار الطراز أو اللون، بل في العملة التي سيدفع بها: الليرة أم الدولار؟

وبعد سؤال الموظّف عن السعر بالعملتَين، اكتشف، بحسبة بسيطة، أن سعر الصرف المستخدم في التسعير أقلّ من ذلك الرسمي المتداول، فاختار الدفع بالدولار ليتجنّب خسارة «نظرية» تتراوح بين 100 و150 ألف ليرة.

هذه المفارقة الصغيرة تختصر تحوّلاً كبيراً تشهده البلاد؛ فمنذ السماح للمواطنين بالتعامل بالدولار بيعاً وشراءً من دون مساءلة قانونية، كما كان عليه الحال أيّام النظام السابق، تتّجه سوريا تدريجيّاً نحو دولرة شبه كاملة في معظم تعاملاتها الاقتصادية، من المحال التجارية الصغيرة، إلى العقارات والمناقصات الحكومية.

ومع تآكل الثقة بالعملة المحلية وتقلّب أسعار الصرف، أصبحت الليرة مجرّد وسيط رمزي في حياة اقتصادية تتحدّث بلغة الدولار.

مصادر القطع الأجنبي

قبل سقوط النظام السابق، كانت مصادر البلاد من العملات الأجنبية محدودة ومعروفة: التحويلات الخارجية النظامية وغير النظامية، الرسوم القنصلية وبدلات الخدمة الإلزامية، إيرادات السياحة والسفر، والصادرات على قلّتها.

ووفقاً لتقديرات غير رسمية، فإن إيرادات البنك المركزي من الدولار، آنذاك، لم تكن تتجاوز، في أحسن الأحوال، ما بين 3 و4 مليارات دولار سنوياً.

لكن، مع التحوّلات السياسية والاقتصادية الأخيرة، تغيّرت معادلة تدفّق الدولار؛ إذ أدّت زيادة التحويلات من الخارج إلى انتعاش جزئي في السيولة،

في حين تراجع بندان رئيسيان، هما: الرسوم القنصلية وبدلات الخدمة العسكرية، بعد قرار السلطات الانتقالية وقْف العمل بالأولى وإلغاء الثانية. أمّا الصادرات، فشهدت انخفاضاً واضحاً نتيجة تراجع الإنتاج المحلّي وارتفاع تكاليف النقل والتأمين.

مع ذلك، حملت الأشهر الأولى من المرحلة الانتقالية تطوّراً غير متوقّع، مع دخول آلاف الأشخاص من مناطق الشمال التي كانت خارجة عن سيطرة النظام السابق، ومعهم كميات ملموسة من الدولار.

هذا التدفّق المفاجئ، أسهم مؤقتاً في زيادة المعروض النقدي الأجنبي في الأسواق، وأعطى انطباعاً زائفاً بالاستقرار، غير أن التساؤل يبقى مطروحاً: هل تكفي هذه الكميات للحفاظ على استقرار سعر الصرف، أم أنها مجرّد موجة قصيرة قبل عودة الاضطراب؟

بين الاطمئنان والمخاوف

يرى خبير مصرفي شارك في تأسيس عدد من المصارف الخاصة في سوريا، أن السوق المحلية لا تزال تتداول كميات كبيرة من القطع الأجنبي، وأن احتمالات انهيار سعر الصرف محدودة في المدى القريب.

لكن هذا التفاؤل لا يحجب حقيقة أخرى، مفادها أن استمرار القلق من الوضع العام يدفع كثيرين إلى نقل أموالهم إلى الخارج، أو تحويل مدخراتهم إلى حسابات في دول مجاورة، وهو ما يعني خروج جزء من السيولة الدولارية من الدورة الاقتصادية المحلية، وبالتالي ارتفاع الطلب مستقبلاً على الدولار داخل السوق نفسها.

هذه الدينامية، في حال استمرّت، قد تعيد البلاد إلى حلقة جديدة من عدم التوازن بين العرض والطلب، ما سيؤدّي حتماً إلى تراجع قيمة الليرة أكثر، وإلى تثبيت الدولرة كواقع اقتصادي لا رجعة عنه؛

علماً أن تقديرات مسؤول سابق في «المصرف التجاري السوري» كانت تتحدّث عن أن حجم السوق اليومية من القطع، كانت بحدود 15 مليون دولار مع بدايات أزمة البلاد.

فقدان الثقة بالعملة الوطنية

ظاهرة الدولرة ليست جديدة في الاقتصادات المنهارة؛ فقد سبقت سوريا إليها دولٌ أخرى – لا سيما لبنان والعراق والإكوادور – التي لجأت حكوماتها إلى تبنّي الدولار كوسيلة لتثبيت الأسعار وضبط التضخّم.

لكن خصوصية الحالة السورية تكمن في هشاشة المؤسسات النقدية والمالية بعد سنوات الحرب والانهيار الإداري.

هكذا، لا تعود الدولرة خياراً سياسيّاً منظّماً، بقدْر ما هي تسوية شعبية فرضها الواقع. وفي حال أسهمت في تهدئة السوق نسبياً، فإنها تحرم البلاد من فعالية أهم أدوات السيادة الاقتصادية، وهي القدرة على إصدار عملة وإدارة السياسة النقدية.

مخاطر اقتصادية واجتماعية

على المدى المتوسّط، تحمل الدولرة في سوريا جملة مخاطر يصعب تجاهلها، أبرزها: احتمال تسجيل انكماش اقتصادي حادّ في مرحلة إعادة الإعمار، إذ لن تتمكّن الحكومة الانتقالية من تمويل الإنفاق العام عبر السياسة النقدية، ما سيقود إلى تقشّف واسع النطاق.

كما سيبرز نقص السيولة الدولارية في المناطق الفقيرة والريفية، حيث يعتمد الناس على المداخيل المحلية أو المساعدات، ما من شأنه أن يفتح الباب أمام سوق سوداء جديدة ويعمّق الفوارق الطبقية بين مَن يملك الدولار ومَن يعيش بالليرة.

كذلك، فإن استمرار التعامل بالدولار لفترة طويلة، سيجعل من الصعب إعادة الثقة بأيّ عملة وطنية جديدة مستقبلاً. فالمستهلك والتاجر والمستثمر، سيعتادون على استقرار الدولار،

ولن يرغبوا في العودة إلى عملة محلية حديثة الولادة، مهما كانت مدعومة سياسيّاً، مع الإشارة أيضاً إلى خطورة «الدولار المزيف» الذي سيجد بيئة أكثر ملاءمة للانتشار والعمل.

نحو سياسة نقدية انتقالية

يبدو أن الدولرة الجزئية أو المرحلية قد تكون الخيار الأكثر واقعية في الظرف الراهن، ذلك أن السماح باستخدام الدولار أو عملات أجنبية أخرى في قطاعات محدّدة (التجارة الخارجية والعقارات والمواد المستوردة)،

مع الإبقاء على عملة وطنية انتقالية لإدارة الرواتب والضرائب والموازنات، قد يشكل مخرجاً مؤقتاً يوازن بين الحاجة إلى الاستقرار والحفاظ على الحدّ الأدنى من السيادة المالية.

وإلى جانب ما تقدّم، تبرز أهمية إنشاء هيئة نقدية انتقالية مستقلّة تكون مهمّتها إعادة بناء الثقة بالمؤسسات المالية، ووضع خطّة زمنية لإصدار عملة وطنية جديدة عندما تتوافر الظروف السياسية والمؤسسية الملائمة.

بالنتيجة، فإن الدولرة ليست إنقاذاً بقدْر ما هي هدنة مع الانهيار. وإذا كانت ستمنح الاقتصاد السوري استقراراً مؤقتاً وتخفّف من حدّة التضخّم، ولكنها، إنْ استمرت بلا أفق زمني، ستتحوّل إلى عبء دائم يربط مصير البلاد بسياسات نقدية لا يمتلك أحد القدرة على التحكم فيها.

الأخبار- رمضان الحكيم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى