اقتصاد

أزمة السيولة في سوريا.. أين اختفت الكميات المطبوعة؟

رغم مضي ما يقارب تسعة أشهر على سقوط النظام البائد، إلّا أن مشكلة عدم توافر السيولة النقدية من الليرة السورية في الأسواق المحلية، لا تزال تلقي بظلالها السلبية على النشاطين الاقتصادي والخدمي في عموم البلاد،

ولا سيما على المستوى المعيشي للسكان، وتحديداً الأسر التي تعتمد في معيشتها على الأجر اليومي، من مثل أصحاب المهن الحرة والورش الصغيرة وغيرها، أو تلك التي تعتمد على الأجر الشهري، من مثل العاملين بأجر لدى القطاعين العام والخاص.

وما يثير الريبة في هذه المشكلة ويدفع إلى البحث عن أسبابها، أن المصارف المحلية، بشقّيها العام والخاص، تشكو من نقص حاد في السيولة، الأمر الذي دفعها صراحة إلى تقييد عمليات السحب، أيّاً كان نوع الودائع أو حجمها.

وفي الوقت نفسه، يعاني المواطنون، على اختلاف وظائفهم وأعمالهم وأوضاعهم الاقتصادية، الأمرّين في سبيل تأمين السيولة اللازمة من الليرة لتوفير احتياجاتهم اليومية. إذاً، أين ذهبت كتلة السيولة النقدية التي كان يجري تداولها في البلاد قبل بضعة أشهر؟

أين اختفى هذا الرقم؟

من المهم، أولاً، التعرّف إلى حجم الكتلة النقدية المطروحة للتداول خلال السنوات الماضية، ولا سيما مع اعتماد النظام السابق على خيارَي طباعة العملة و«التمويل بالعجز» لسدّ فجوة العجز المتشكّلة سنويًا أثناء تنفيذ الموازنة العامة للدولة، بين الإيرادات المتحققة فعلياً والنفقات الجارية والاستثمارية.

غير أنّ توقف المصرف المركزي عن نشر تحديث بياناته النقدية منذ عام 2011، يجعل من الصعب تقديم رقم دقيق لحجم الكتلة النقدية المتداولة في الأسواق لحظة سقوط النظام السابق.

وعليه، فإن الاعتماد سيكون على تقديرات بعض الباحثين الاقتصاديين، مع مقارنتها ببعض البيانات الرسمية القليلة، والوقوف أيضاً على نسبة العجز السنوي الفعلية في الموازنة العامة للدولة لسنوات عدة، وتحديداً تلك التي أُنجز لها قطع حسابات.

تظهر بيانات صادرة عن «هيئة التخطيط» الحكومية في النصف الثاني من العام الماضي، أن السنوات الأخيرة شهدت ضخّاً أو توسّعاً كبيراً في طرح العملة النقدية في السوق.

وتأكيداً لذلك، ثمّة مؤشران رسميان: الأول يتعلّق بنموّ المعروض النقدي بالمعنى الواسع، والذي بلغت نسبته نحو 63% عام 2020، في حين لم تتجاوز 26% عام 2019. أمّا المؤشر الثاني، فهو نسبة المعروض النقدي من الاحتياطيات، التي وصلت عام 2019 إلى نحو 320%.

ما تقدّم يعني ببساطة أن هناك توسّعاً كبيراً في طباعة العملة من جهة، وزيادة في الاعتماد على خيار التمويل بالعجز من جهة أخرى.

والغاية من ذلك كانت تجاوز مشكلة تراجع إيرادات الخزينة العامة، وتلبية زيادة الإنفاق العام، ولا سيما عند إقرار زيادات على الرواتب والأجور للعاملين في مؤسسات الدولة، أو حتى عند زيادة الإنفاق من خارج الموازنة العامة.

أمّا النتيجة النهائية لكل ذلك، فتمثلت في مزيد من فقدان الثقة بالعملة الوطنية، وتدهور أكبر في قوّتها الشرائية.

في تقريره الأخير حول الوضع الاقتصادي السوري، يقدّر «البنك الدولي»، استناداً إلى بيانات حكومية رسمية لعام 2023، نسبة المعروض النقدي «M1» – الذي يشمل النقد والودائع الجارية – بنحو 18.5% من الناتج المحلي الإجمالي المقدّر بنحو 20 مليار دولار.

وهذا يعني أن حجم المعروض النقدي بلغ نحو 29.433 ألف مليار ليرة وفقاً لسعر الصرف الرسمي آنذاك، ونحو 39.020 ألف مليار ليرة، وفقاً لسعر الصرف في السوق الموازية خلال العام نفسه.

على أن ما سبق، وتحديداً ما يتعلّق بحجم المعروض النقدي (M1)، يتقاطع مع ما كتبته الباحثة الاقتصادية، رشا سيروب، أخيراً، على صفحتها الشخصية؛ إذ قدّرت قيمة النقد المصدر في سوريا بنحو 35 تريليون ليرة، وذلك اعتماداً على تصريح صحافي لحاكم المصرف المركزي، أشار فيه إلى أن عدد الأوراق النقدية المصدرة يبلغ 14 مليار ورقة.

وهكذا، تبدو تقديرات الباحثة قريبة جداً من الواقع، قياساً على قيم العجوزات المالية المتحققة فعلياً من تنفيذ موازنات الدولة على مدار السنوات السابقة.

وعادةً ما تثير هذه الأرقام تساؤلات حول الأثر الذي تركته سياسة التمويل بالعجز والطباعة غير المغطاة، على التضخّم والقوة الشرائية والاقتصاد عموماً.

لكن في الحالة السورية الراهنة، يظلّ السؤال الأهم: أين اختفت السيولة التي طُبع منها ما بين 25 و30 ألف مليار ليرة خلال سنوات الحرب؟ فإذا كانت غير موجودة في المصارف أو لدى البنك المركزي، وإذا كانت الخزينة العامة تكابد لتأمين الضروري من احتياجاتها للإنفاق، فإن المنطقي،

في ضوء ذلك، أن تكون هذه السيولة موجودة بالتداول بين أيدي الناس، غير أنّ الواقع الحالي لا يشير إلى ذلك.

واللافت أن خبراء «البنك الدولي»، الذين زاروا سوريا وتمكّنوا من الحصول على جميع البيانات التي طلبوها لصياغة تقريرهم الأخير، لم يتمكّنوا من تقديم تفسير علمي وموضوعي لأزمة السيولة التي تعيشها البلاد منذ كانون الأول الماضي، والناجمة عن «نقص الأوراق النقدية وحدوث اختلالات واسعة في تداول العملة المحلية».

أسئلة جوهرية

إحدى أهم الأولويات الملحّة أمام المصرف المركزي اليوم، والتي سبق أن طرحها اقتصاديون وبقيت بلا إجابة، تتعلّق بحجم الكتلة النقدية (من الليرة السورية) الموجودة خارج سوريا، وتحديداً في لبنان وتركيا؛

وتوزّع نظيرتها داخل البلاد، خصوصاً في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة المركزية؛ وحجم الأوراق النقدية التالفة التي تُسحب سنوياً من التداول أو التي لا تزال متداولة؛ فضلاً عن احتمال وجود نفقات حكومية غير منظورة في بيانات النفقات العامة ووزارة المالية.

وعلى أي حال، يمكن أن تسهم الإجابة عن مثل هذه التساؤلات وغيرها، في حلّ اللغز الذي يؤرّق عدداً كبيراً من الاقتصاديين والخبراء، ويتسبّب بهذه الضائقة المعيشية التي ترغم الكثير من الأسر والأفراد على بيع ما تبقّى من ممتلكاتها، بما تيسّر من دولار أو ليرة، لسدّ احتياجاتها الأساسية.

كما إن تلك الإجابة تمثّل، في حال تحقّقها، ترجمة عملية لشعار الحكومة الانتقالية بشأن التزامها بالشفافية والمكاشفة في أعمالها ومشاريعها وخططها.

صحيفة الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى