
الاستملاك قد يكون أداة لحماية التراث، لكن حين يستخدم للتجميد أو التربّح، يصبح وسيلة لمحو هوية مدينة عمرها آلاف السنين.
دمشق القديمة موضوع يختزل واحدة من أكثر المعضلات حساسية في إدارة المدن التاريخية فهي تعدّ من أقدم مدن العالم المأهولة بلا انقطاع، مسجّلة على قائمة التراث العالمي لليونسكو، وتضم أحياء أثرية مثل: الحمراوي، ساروجة، العقيبة، سوق مدحت باشا وغيرها، وتحتوي على كنوز معمارية من العهد الأموي، المملوكي، العثماني، ومنازل دمشقية فريدة بزخارفها وحدائقها الداخلية.
حروب الاستملاك
حرب الاستملاك والهدم والعمران.. حكاية مستمرة توالد عنها حكايات كثيرة، شكّلت واقعاً مريراً عاشه سكان دمشق القديمة، وكلّ محبي الإرث الدمشقي القديم، من منا لا يذكر حكاية استملاك حي الحمراوي- أحد أجمل الأحياء القديمة، كان حكاية الشام كلها التي بدأت في ستينيات القرن الماضي، فدافع عنها أصدقاء دمشق، والإعلام والفنانون والمحامون..
حكاية أتعبت أهلها، وأصحاب المحال الأصليين، الذين تراكمت أوراقهم على أبواب الوزارات، والنقابات، والجمعيات، حتى وصلت الأوراق لمجلس الشعب، ورئاسة الوزراء في الحكومات المتعاقبة سابقاً.
طالب الجميع حينها بإيقاف الاستملاك وفتح المجال أمام أصحاب البيوت لترميم بيوتهم التي كانت تتداعى، طالبوا أن يسمح لهم بإعادة الترميم، ولكن من دون جدوى ولا حياة لمن تنادي.
لم تهدأ الدعوات والمطالب يوماً بضرورة إنقاذ ما تبقى من تراث هذه المدينة وكنوزها المهمة التي بدأت تضيع وتتغير معالمها وملامحها بسبب الإهمال وعدم الصيانة والترميم المطلوب.
الإهمال المتعمد لتدمير تراث دمشق القديمة يحمل بعداً نقدياً عميقاً، ويسلط الضوء على واقع ثقيل يعيشه أهل المدينة، ويشهده كلّ من يعرف قيمة دمشق كإرث إنساني.
دمشق القديمة، واجهت خلال فترة حكم النظام البائد ما يمكن تسميته إعداماً بطيئاً لتراثها، لكن الجريمة هنا كانت ليست بفعل الزمن، بل بفعل الإنسان عبر إهمال متعمد، يرقى إلى مستوى التخريب المنهجي، الذي قد يؤدي إلى محو هوية المدينة .
سياسة ممنهجة
فالإهمال هنا ليس صدفة كما يروج ولكنّه كان سياسة- حسب ما أفاد به لصحيفة “الثورة” المهندس أمين الدباس، أحد سكان ساروجة، من خلال سياسات اتبعتها الحكومة آنذاك بمنع الترميم والحصول على إذن بالترميم من دون موافقات شبه مستحيلة، ورفض تمويل مشاريع الترميم حتى من الجهات الخاصة أو الدولية، وتعليق الاستملاكات منذ عقود من دون تنفيذ أو إلغاء، وترك الأحياء عرضة للحريق والانهيار من دون تدخل عاجل،
مؤكداً أن الهدف هو الوصول إلى نقطة يصبح فيها الهدم مبرراً لأن الحي لم يعد صالحاً للسكن أو السياحة، وتهيئة الأرض للاستثمار الربحي على حساب الذاكرة وإفراغ المدينة القديمة من سكانها الأصليين عبر التضييق، وإفساح المجال لشركات قابضة مثل “دمشق الشام القابضة” لبناء مشاريع تجارية.
وطالب المهندس الدباس الجهات المعنية في الحكومة الحالية بحماية قانونية للأحياء المتضررة وإلغاء الاستملاكات غير المفعّلة، وتمكين السكان من الترميم، وإشراك المجتمع المحلي والمهنيين في عمليات الترميم والتخطيط وتفعيل رقابة اليونسكو والمنظمات الثقافية العالمية.
استملاكات مجمدة
من سكان دمشق القديمة الخبير في شؤون تخطيط المدن المهندس رفقي الحلبي، أكد أن الاستملاك هو أحد الأسباب في تدهور النسيج العمراني في داخل المدينة القديمة، وعن واقع الاستملاكات فيها، بيّن أن جميعها مجمدة ولم ينفذ منها أي مشروع باستثناء ساحة الجامع الأموي
وقد ساهم تسجيل المدينة على لائحة التراث العالمي في منع تنفيذ المشاريع التي نفذ الاستملاك لأجلها، ومنها حي الحمراوي والمدارس، ومعظم المباني في حالة فيزيائية سيئة جداً وتحتاج لترميم سريع بسبب عدم القيام بأعمال صيانات دورية لها أو ترميمها أو اعتماد آلية للحفاظ عليها من السقوط، إلى جانب أن بعض العقارات المستملكة تتعرض لتعديات مستمرة.
وحسب المهندس الحلبي، لا تزال الكثيرمن المباني والمنازل الأثرية في مدينة دمشق القديمة تتعرض للانهيارات والتداعي سواء بجزء منها أم بمعظمها، كما أن حال الغالبية من تلك المواقع والعقارات اليوم لا يسرالخاطر لجهة الحالة الفنية والعمرانية للأبنية والتي تهالكت مع مرور الزمن وتهدمت أجزاء منها إن لم يكن كلها،
ولعل القاسم المشترك بين كلّ ذلك هو أنها عقارات مستملكة لجهات عامة منذ عشرات السنين لغرض النفع كما هو معلن في الغايات الاستملاكية، لكن في دمشق القديمة، غالباً ما تحوّل الاستملاك إلى أداة للتجميد والتخريب غير المباشر.
أثره على التراث
يخضع نحو 19 بالمئة من مساحة دمشق القديمة للاستملاك لمصلحة جهات عامة لسنوات، ومع وقف التنفيذ، ما جعل تلك العقارات في حالة شلل، لا يُسمح بالترميم أو الهدم، وبالتالي بقيت مهجورة ومهددة بالانهيار والحرائق، مثلما حصل في حارة العقيبة وساروجة، التي أتت على قصر اليوسف الأثري وأتلفت أجزاءً من قصر خالد العظم.
اجتماعات حكومية آنذاك أعقبت هذه الحرائق، لكنها لم تطلق آليات فعالة لحماية الأبنية من التدهور، ما يعكس غياب إرادة جادة في الحفاظ على التراث وكشفت الحماية الشكلية الخادعة، فيما تُمنع أعمال الترميم، ترك التراث وحده لينهار تدريحياً.
حتى أن بعض البيوت الدمشقية الأصيلة، مثل بيت العظم، جُرّدت وتم تفكيكها ونقلها إلى الخارج، حيث أُعيد بناؤها في متحف بقطر، ما يمثل ذلك انتهاكاً صارخاً للتراث الوطني، والاتهامات طالت أجهزة الدولة ومسؤولي التراث بمحافظة دمشق في حكومة النظام المخلوع لضلوعهم في عمليات التهريب عبر التعاون مع جهات نافذة وميليشيات خاصة.
بعد سقوط نظام الأسد المخلوع، ساهمت ظروف الانفلات الأمني بانطلاق عمليات حفر بحثاً عن كنوز داخل بيوت قديمة، ما زاد من تدمير الجدران والفسيفساء القديمة.
وبحسب مصادر في مديرية دمشق القديمة إن الحكومة الجديدة أوقفت تلك الممارسات، كما يتم حالياً التعاون مع منظمات دولية من أجل حماية المعالم وصياغة خطط ترميم منهجية، الحكومة الجديدة أبدت بعض الاستجابة، لكن التحدي كبير ويتطلب دعماً دولياً وخططاً ميدانية واضحة.
كيف يدمّر الاستملاك التراث؟
يبين الباحث في شؤون التراث الدمشقي نعيم كلاس أن محاولة تدمير الاستملاك للتراث الدمشقي في المدينة القديمة حصل عبر تجميد الترخيص بالترميم، الأمر الذي يؤدي لانهيار الأبنية تدريجياً، ونقل الملكيات لشركات استثمارية لتهجير السكان، وتحويل الحي لترفيه فاقد للهوية، والإهمال المتعمد أدى لتكرار الحرائق وانهيار الأبنية الأثرية، إضافة للتفكيك والتهريب ونقل بيوت كاملة إلى الخارج،
مضيفاً: وتحت عنوان “الاستثمار باسم الحداثة” حصلت شركة دمشق الشام القابضة، المملوكة لمحافظة دمشق أيام النظام البائد على ملكيات واسعة بدمشق القديمة، وروّجت لمشاريع، مثل القرية التراثية، لكن من دون إشراك المجتمع المحلي أو الحفاظ الدقيق على الطابع الأصلي، في محاولة لتحويل التراث إلى نسخة بلا روح.
ولعل ما يطالب به الخبراء والمجتمع- حسب الباحث كلاس- هو إلغاء الاستملاكات المجمدة لأنها فقدت غرضها العام وتحولت إلى عبء وتهديد، مع ضرورة إشراك المجتمع المحلي في القرار، فالسكان ليسوا عائقاً، بل حماة طبيعيون للتراث، ومنع تفريغ المدينة القديمة من سكانها لأن بقاء الناس هو ما يحافظ على الروح الحقيقية للمكان،
مؤكداً على اعتماد الترميم الحقيقي لا التزيين بإشراف خبراء، وليس عبر مقاولين لا خبرة لهم بالعمارة الدمشقية، فدمشق القديمة لا تحتاج إلى إعادة إعمار إسمنتية، بل إلى عناية صادقة، ترميم علمي، وإرادة تحترم الذاكرة.
سيف مسلط على أصحاب الحقوق
المحامي محمد الدالاتي، بين خلال حديثه لصحيفة الثورة: تاريخياً طبقت في سوريا 4 قوانين استملاك منذ العام 1855 مروراً بالعام 1897 إلى 1946، إلى القانون رقم 20 لعام 1983 الذي لا يزال معمولاً به إلى وقتنا الحالي، معتبراً أن قانون الاستملاك هو سيف مسلط على رقاب أصحاب الحقوق رغم أنه يقع بهدف النفع العام، وقضية النفع العام هي شماعة وليست حقيقية ذلك أن الكثير من الاستملاكات عشوائية وظالمة،
والدليل أنه لم ينجز الكثير من المشاريع التي تم الاستملاك لأجلها أو بهدف إقامتها، ولذلك فإن (النفع العام) هي كلمة مطاطة، موضحاً أنها تسمى عقارات معطلة لأنه بعد وضع إشارة الاستملاك عليها لا يعود بمقدور المالك الأصلي أن يستفيد منها أو يتصرف بها.
ويضيف الدالاتي: الاستملاك يقوم على ثلاثة أركان، هي: محل الاستملاك، والهدف منه، وآلية التعويض، لكن في سوريا يقوم الاستملاك على مفهومين متناقضين: الأول هو الحق المقدس للملكية الخاصة، والثاني هو نزع الملكية جبراً من قبل الإدارة، فالملكية الخاصة مصونة بالدستور والقوانين ولا يجوز النيل منها إلا عن طريق الاستملاك الذي هو وسيلة قانونية أوجدها الدستور والقوانين المتعددة ويكون بقرار إداري،
إذ تستطيع الإدارة أن تستملك جبراً وتنتزع الملكية الخاصة على محل أو عقار، منوهاً بضرورة إعادة الحسابات في عملية الاستملاك، والحاجة تدعو لاستملاكات معقلنة ومدروسة وتلبي الحاجة وتحقق الهدف منها، والتأكيد أن يتم التعويض من لحظة وضع إشارة الاستملاك وليس من تاريخ صدور قرار الاستملاك.
وختم: إن الاستملاك هو أسلوب الكسالى، فبدلاً من أن تقوم الوحدات الإدارية بإقامة مناطق تنظيمية ومناطق تخطيطية، تلجأ إلى عملية الاستملاك، ولذلك لا بدّ من وضع رؤية إستراتيجية جديدة تراعي المعطيات الحالية والمستقبلية في دمشق القديمة لوضع برنامج للمحافظة عليها وتطويرها.
ودعا لقرع ناقوس الخطر الذي يتهدد التراث المادي في مدينة دمشق القديمة والناجم عن الاستملاكات المنفذة على العديد من المباني الأثرية والتراثية والمنازل والخانات، مع ضرورة الإسراع بعملية إيجاد حلول لإنقاذ ما تبقى من الإرث التاريخي لمدينة دمشق القديمة بعد ما أصاب العقارات المستملكة من تهدم جزئي أو شبه كلي، نتيجة عدم القيام بترميمها واتخاذ إجراءات المحافظة عليها على مدى العقود الماضية التي تم استملاكها خلالها، مع الإسراع بإزالة التعديات الحاصلة على بعضها وسوء الاستخدام الحاصل.
الثورة – ثورة زينية