
تبرز أكلة “الكبيبات بسلق” من الأطباق التي تحاكي ذاكرة الريف الساحلي، التي تعد رمزاً من رموز تراث الساحل السوري، خصوصاً في ريف جبلة.
وتعد هذه الأكلة الشتوية المحبوبة بمثابة طعام الضيافة الأول، حيث تحتفظ بجوهر مكونات الأرض وكرم أهلها، وتستمر في تحضيرها وتقديمها عبر الأجيال.
الكبيبات بسلق.. قصة أكلة تقليدية تختلف عن الكبة الشهيرة
يعتقد الكثيرون أن الكبة هي أكلة حلبية بامتياز، ولكن قل من يعلم أن لأهل الساحل السوري “كبَّتهم” الخاصة التي تختلف من حيث المكونات وطريقة التحضير.
“الكبيبات بسلق” هي نوع من أنواع الكبة التي تعتبر من الأكلات التراثية الأكثر شهرة في ريف الساحل، خاصة في فصل الشتاء حيث يتوفر السلق الأخضر بكثرة.
تتميز الكبيبات بسلق بمكوناتها البسيطة والمغذية، حيث تحضر العجينة من البرغل الناعم، بينما يتم حشوها بمزيج من السلق المفروم مع البصل وزيت الزيتون، ويسلق هذا المزيج في الماء المغلي بدلاً من قليه.
وعلى الرغم من بساطتها، تحمل هذه الأكلة العديد من الذكريات الجميلة التي لا تزال تحكى بين الأجيال.
صورة حية من الموروث الشعبي
تحدثت لـ”الحرية” الثمانينية عليا عن وصفة الكبيبات التي لا زالت تحضر في منزلها كما كانت تفعل والدتها من قبل، حيث لا تزال النسوة في العائلة يجتمعن لتحضير هذه الأكلة في فصل الشتاء،
وقالت: لم يتغير الكثير في طريقة التحضير، ولكن البعض أضاف عليها بعد المواد باللحمة الناعمة، لكن تبقى الكبيبات بسلق ألذ وأطيب عندما تُصنع بالمواد النباتية بالكامل.
أما التسعيني إبراهيم أبو زكريا يستذكر أيام والدته وزوجته، قائلاً: في اليوم الذي كانت تُطبخ فيه “الكبيبات” كان منزلنا يبدو وكأنه يعيش يوم عيد، فأمي ومن بعدها زوجتي كانتا تقضيان نصف نهارهما في التحضير، وكأنهما تحضران حلويات العيد، كنت أنا وأخواتي وأولادي ننتظر بفارغ الصبر حتى تنتهيان لكي نجتمع على المائدة.
أكلة تجمع العائلة وتتوارثها الأجيال
يوم جمعة، وهو يوم عطلة نهاية الأسبوع في سوريا، تجمع الخالة أم علي (80 عاماً) من ريف جبلة، أولادها وأحفادها، ليكون الغداء أقراص الكبيبات بسلق، تقطف أوراق السلق من أرضها القريبة، ثم تعكف على تحضير الحشوة، فتقوم بسلق السلق المفروم جيداً ثم تفرغه من الماء، بعد ذلك تضيف إليه التوابل المميزة مثل دبس الفليفلة، الفلفل الأسود، وعصير الليمون أو السماق.
تستمر السيدة أم علي في وصف تفاصيل إعداد “الكبيبات”، فتقول: “عملية الحشو تحتاج إلى دقة ومهارة خاصة، العجينة لا ينبغي أن تكون سميكة جداً وعندما يكتمل الحشو، تُسلق الكبيبات في الماء المغلي، حيث تطفو على السطح عندما تنضج، ثم تقدم مع التغميس الخاص بها: ثوم وزيت زيتون وعصير الليمون.
بقايا الطعام.. لا شيء يُرمى
في إحدى قرى جبلة تجتمع الجارات لتحضير أكلة الكبيبات بسلق، لمرتين أو أكثر أسبوعياً طوال فصل الشتاء وبقاء موسم السلق، فهي أكلة تحتاج عملاً طويلاً، وكلما كثر معدوها قلّ وقت الإعداد.
أقراص “الكبيبات بسلق” تؤكل ساخنة، إذ تفقد جزءاً كبيراً من نكهتها في حال تناولها باردة، كما تقول أم محمد مطيعة، وتضيف إن الأقراص المتبقية لليوم الثاني، لا يعاد تسخينها بطريقة السلق، إنما بطريقة القلي بزيت الزيتون حصراً، وتؤكل ساخنة من دون وجود صوص التغميس المؤلف من الثوم والزيت والحامض، إنما يتم تناول شوربة العدس أو أي نوع شوربة آخر معها.
تقول رقية أم أيمن إنهنّ يحرصنّ على ترك القليل من العجينة، وعدة ملاعق من الحشوة، لطهو طبق جانبي آخر اسمه “الدعيبولات” أو “المسيلوقات”، إذ يتم صنع كرات صغيرة من العجينة بحجم حبة الحمص، توضع في مياه سلق أقراص الكبيبات، مع أربع أو خمس ملاعق من الحشوة،
وكميات صغيرة من الحبوب المنقوعة سابقاً، مثل الحمص والفاصولياء واللوبياء والعدس، وتترك على النار حتى تنضج ثم تصبح حساء شهياً، يضاف إليه القليل من عصير الحامض والثوم والملح.
الكبيبات بسلق.. طبق الهوية الشعبية
لكل منطقة في سوريا أكلها التراثي الذي تشتهر به، وغالباً فإن الطعام الذي تشتهر به كل منطقة، يكون نابعاً من العادات الغذائية أو من المكونات في بيئة تلك المنطقة.
ففي الريف الساحلي، أكلة “الكبيبات بسلق” على بساطتها، تعتبر طعام الضيافة الأول لكل الزائرين من خارج المحافظة، كون هذا الطبق يعبر عن هوية المنطقة نفسها.
إلى جانب ذلك تعد “الكبيبات بسلق” أكثر من مجرد أكلة تقليدية، فهي تمثل جزءاً من هوية ريف الساحل السوري، في يوم عيد البشارة، وهو يوم التبشير بولادة السيد المسيح، يتم طهي هذا الطبق بشكل خاص كجزء من الاحتفال التقليدي، ويظل مكوناً أساسياً في قائمة الطعام الصيامي.
التأصيل في التراث الشعبي
ويؤكد الباحث في التراث الشعبي نبيل عجمية أن الموروث الشعبي هو الرابط الحيوي بين الأجيال.
يقول: “من دون التراث الشعبي، يصبح المجتمع كالجسد بلا روح”. في الساحل السوري، يعتبر إرث الأجداد جزءاً من ذاكرة الناس، ويتنقل عبر الأجيال من خلال الأطعمة، الأغاني، والأمثال الشعبية.
وأضاف: إن كل موسم له أغانيه، يتغنى أهل الساحل بأغاني ترتبط بموسم الكبيبات، ويقولون:
على دلعونة وعلى دلعونة
زيتون بلادي أحلى ما يكونا
وكيبيات السلق لما تتحمر
ما أطيب طعما بزيت الزيتونا.
تعبير حي عن أصالته
وتظل “الكبيبات بسلق” أكثر من مجرد أكلة، بل هي تجسيد لروح المجتمع الساحلي وتعبير حي عن أصالته، موروثه، وتقاليده التي تتجدد عبر الزمن.
الحرية- باسمة إسماعيل














