
في ظل الأزمات الاقتصادية والصحية التي تعصف بسوريا منذ أكثر من عقد، عاد الطب البديل ليحتل مكانة بارزة في حياة السوريين، ليس فقط كخيار علاجي، بل كجزء من الهوية الثقافية والطبية المتجذّرة في التراث الشعبي.
هذا التحقيق الاستقصائي يكشف عن واقع غير مرئي لمهنة تتقاطع فيها الحاجة مع الموروث، وتختلط فيها التجربة الشعبية بالعلم الغائب، وسط غياب واضح للتنظيم الرسمي والرقابة العلمية.
واقع ميداني يكشف فوضى الممارسة
خلال جولات ميدانية في ريف دمشق، رصد التحقيق انتشار مراكز للعلاج بالأعشاب والحجامة والطاقة، يعمل فيها أفراد لا يحملون أي شهادات طبية أو تراخيص رسمية، بعضهم يكتفي بخبرة موروثة أو دورات قصيرة، بينما يروج آخرون لخلطات مجهولة المصدر، دون أي إشراف علمي أو رقابة صحية.
في أحد الأحياء الشعبية، وجدنا مركزاً صغيراً يديره شاب في العشرينيات، يصف نفسه بـ”خبير الأعشاب”، ويقدم وصفات لعلاج السكري والضغط والربو، دون أي سجل طبي للمرضى أو معرفة بتداخلات الأعشاب مع الأدوية الكيميائية، وعند سؤالنا عن مصدر الأعشاب، أشار إلى أنها “محلية ومجربة”، دون أي توثيق أو تحليل مخبري.
إقبال متزايد رغم المخاطر
وفقاً لمصادر محلية، يُقدّر أن أكثر من 60% من سكان المناطق الريفية يلجؤون إلى الطب البديل بشكل جزئي أو كامل، بسبب ارتفاع أسعار الأدوية أو انقطاعها، النساء يشكلن نسبة كبيرة من العاملين في هذا المجال، وخاصة في تصنيع الكريمات والزيوت والصابون الطبيعي، دون أي إشراف مختبري أو ترخيص صناعي.
لكن هذا الإقبال لا يخلو من المخاطر، فقد وثّق التحقيق حالات تسمم ناتجة عن استخدام أعشاب غير مطابقة للمواصفات، وأخرى تفاقمت فيها أمراض مزمنة بسبب الاعتماد على وصفات شعبية دون تشخيص طبي، في إحدى الحالات، أصيبت طفلة بحروق جلدية نتيجة استخدام مرهم عشبي غير معروف المصدر لعلاج الأكزيما.
فراغ تشريعي يفتح الباب أمام الفوضى
لا توجد حتى الآن هيئة رسمية تنظم مهنة الطب البديل في سوريا، ولا تصنيف واضح للمعالجين أو المراكز العاملة في هذا المجال، هذا الفراغ التشريعي يفتح الباب أمام ممارسات غير علمية، ويضع المرضى في مواجهة مباشرة مع احتمالات الخطر، دون حماية قانونية أو صحية.
في حديث خاص لـ”سانا”، أكد الصيدلاني عبد الوهاب عبلا من ريف دمشق أن غياب الرقابة جعل كثيراً من المعالجين يفتقرون للخبرة، ما أدى إلى حالات تسمم أو تفاقم للأمراض، مشيراً إلى أن بعض الأعشاب قد تتداخل مع أدوية كيميائية أو تسبب حساسية، ما يستدعي إشرافاً علمياً صارماً.
الأعشاب السورية… كنز غير مستثمر
تتمتع سوريا بتنوع نباتي غني، يجعلها من الدول القادرة على إنتاج أعشاب طبية عالية الجودة، لكن غياب البحث العلمي، وعدم وجود مختبرات متخصصة، يحول هذا المورد الطبيعي إلى سوق عشوائي، يفتقر إلى المعايير والمواصفات.
المعالج الشعبي “أبو نزار”، الذي يعمل في منطقة التل، يؤكد أن الأعشاب السورية تُعد من الأغنى عالمياً، ويستخدمها لعلاج أمراض مثل السكري، القولون، الأكزيما، والربو، لكنه يشدد على أهمية التشخيص الصحيح، وجودة الأعشاب، والتعاون مع أطباء مختصين لضمان سلامة العلاج.
بين العلاج والدجل.. أين الخط الفاصل؟
الخلط بين الطب الشعبي والدجل لا يزال شائعاً في المجتمع السوري، فبين من يصف عشبة مناسبة لحالة مرضية، ومن يقرأ على المريض أو يصف خلطات مجهولة المصدر، تضيع الثقة ويزداد الخوف من المضاعفات.
في إحدى الحالات التي رصدها التحقيق، لجأت سيدة إلى معالج يدّعي القدرة على “إبطال السحر” باستخدام الأعشاب، فدفعت مبالغ كبيرة مقابل وصفات غير فعالة، ما أدى إلى تفاقم حالتها النفسية والجسدية.
الطب التكميلي.. فرصة للتكامل أو صراع؟
الطبيب جهاد شحرور، المختص في الطب التكميلي، يرى أن لا فرق جوهرياً بين الطب البديل والتكميلي، بل يمكن دمجهما مع الطب الحديث لتحقيق نتائج أفضل، بشرط وجود إشراف علمي، لكنه يحذر من غياب الدليل العلمي، ويطالب بدمج الطب الشعبي في إطار أكاديمي يضمن السلامة والفعالية.
من جهته، يؤكد الدكتور باسل أبو عباس، اختصاصي أمراض الأذن والأنف والحنجرة، أن الطب البديل ليس علماً مسنداً بالدليل، وقد يكون خطراً على الصحة العامة في حال لم يمتلك المعالج الخبرة الكافية بالأعشاب الطبية.
توصيات.. نحو تنظيم علمي وآمن
إنشاء هيئة وطنية لتنظيم الطب البديل ومنح تراخيص للمراكز والمعالجين.
إدراج الطب الشعبي ضمن مناهج كليات الطب والصيدلة.
فتح دورات تدريبية بإشراف مختصين لتأهيل العاملين في هذا المجال.
تشجيع البحث العلمي في الأعشاب الطبية السورية.
تعزيز التعاون بين المعالجين الشعبيين والأطباء والصيادلة.
خلاصة: بين الحاجة والهوية، يبقى الطب البديل في سوريا مجالاً خصباً للتطوير، لكنه يحتاج إلى تنظيم صارم، ورؤية علمية، تضمن سلامة المرضى وتحول التراث إلى علم نافع يخدم الصحة العامة.
سانا