محليات

الحرف اليدوية السورية أمام تحديات كبرى وخطر الاندثار

في ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة التي خلّفتها سنوات الحرب، يواجه الحرفيون في سوريا تحديات متزايدة تهدد استمرارية مهن شكّلت لعقود طويلة جزءاً أصيلاً من الهوية الاقتصادية والاجتماعية والتراثية للمجتمع السوري.

وبين ارتفاع تكاليف المواد الأولية، وتراجع القدرة الشرائية، وضعف التسويق، وتغيّر أنماط الاستهلاك، يجد أصحاب الحرف أنفسهم في صراع يومي للحفاظ على مصادر رزقهم، وسط واقع ضاغط لا يترك لهم سوى خيار الصمود أو الخروج القسري من السوق.

ورغم هذه التحديات، لا يزال كثير من الحرفيين متمسكين بمهنهم، سواء داخل الورش التقليدية أو عبر مشاريع صغيرة ومنزلية، محاولين التكيّف مع الواقع الجديد من خلال تطوير منتجاتهم، أو تعديل طبيعة الطلب، أو الاستفادة من الوسائل الحديثة في التسويق والإنتاج.

وبين قصص الصمود الفردية والمخاوف الجماعية من اندثار بعض الحرف، يأتي المطلب الأساسي المتمثل بضرورة توفير دعم حكومي حقيقي يضمن حماية هذا القطاع الحيوي، ويفتح أمامه آفاق الاستمرار والنهوض من جديد.

قطاع مثقل بالأعباء وحرف مهددة بالاندثار

رئيس اتحاد الحرفيين المهندس خالد تركماني أكد لصحيفة “الثورة السورية” أن واقع الحرفيين اليوم لا يزال ضعيفاً، رغم الجهود المبذولة لتحسينه، مشيراً إلى أن الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد بعد سنوات الحرب أثرت بشكل كبير على هذا القطاع، مؤكداً أن التعافي يحتاج إلى وقت وصبر حتى تتحسن الأوضاع تدريجياً.

وأوضح تركماني أن من أبرز التحديات التي تواجه الحرفيين حالياً تدمير عدد كبير من المحال والورش الحرفية خلال سنوات الحرب، حيث لايزال أصحابها بانتظار إعادة بنائها أو ترميمها، إضافة إلى ضعف السيولة المالية لدى الحرفيين نتيجة التهجير والخسائر المتراكمة، فضلاً عن هجرة عدد كبير منهم خارج البلاد، ما أدى إلى فقدان خبرات مهنية تراكمت على مدى سنوات طويلة.

وأشار إلى أن هناك عدداً كبيراً من الحرف المهددة بالاندثار، بل إن بعض المهن لم يتبقَّ منها سوى حرفي واحد فقط، مثل أنواع معينة من الحفر على النحاس، وعزا ذلك إلى غياب التقييم الحقيقي لأهمية هذه الحرف من قبل الحكومات السابقة، وعدم اعتبارها جزءاً أساسياً من التراث والحضارة الوطنية، ما أدى إلى اندثار قسم منها وبقاء القسم الآخر في دائرة الخطر.

وأكد تركماني أن السبب الرئيسي لاندثار الحرف هو انعدام الدعم اللازم لها، سواء من حيث التمويل أو التسويق أو التدريب، مشيراً إلى أن اتحاد الحرفيين يعمل حالياً على الحفاظ على ما تبقى من هذه المهن، وقد نجح بالفعل في إنقاذ بعض الحرف من الانقراض، إلا أن الحاجة لا تزال كبيرة لدعم حقيقي ومستدام يضمن استمراريتها.

ارتفاع التكاليف عبء إضافي

وحول تكاليف الإنتاج، أوضح تركماني أن الارتفاع الكبير في أسعار المواد الأولية شكّل عبئاً إضافياً على الحرفيين، إلى جانب ارتفاع تكاليف الكهرباء والمياه وأجور الورش المستأجرة، ما أثر بشكل مباشر على استمرارية العمل الحرفي، ودفع بعض الحرفيين إلى تقليص إنتاجهم أو إيقافه بشكل مؤقت.

كما شدد على أن المشاريع الحرفية الصغيرة تحظى بأهمية قصوى في جميع دول العالم، إذ تشكّل الأساس الذي تُبنى عليه الصناعات الكبرى، مشيراً إلى تجارب دول مثل الصين واليابان التي استطاعت النهوض اقتصادياً من خلال دعم الورش الصغيرة والمشاريع الحرفية،

مشيراً إلى أن أكثر من 60 بالمئة من المهن في سوريا هي مهن حرفية، ما يجعل هذا القطاع ركناً أساسياً من أركان الاقتصاد الوطني.

وأكد تركماني أنه لا بديل عن الاستمرار في المشاريع الصغيرة، كونها أصل الحضارة والتطور الإنساني، موضحاً أن أصحاب هذه المشاريع لا يملكون خياراً آخر سوى الاستمرار في العمل رغم الصعوبات، معتبراً أن الوضع الحالي، ورغم قسوته، لا يزال مقبولاً مقارنة بسنوات الحرب.

وختم رئيس اتحاد الحرفيين حديثه بالتأكيد على أن الاتحاد، بعد مرحلة النصر، يحمل على عاتقه مسؤوليات كبيرة وصعبة، ويعمل بشكل يومي على تقديم الدعم الممكن للحرفيين، في محاولة لتثبيت هذا القطاع الحيوي وضمان استمراره.

بداية من الصفر.. قصة خياط

الحرفي مهران عبد الرزاق يروي قصة إعادة بناء حياته المهنية من جديد، بعد أن خسر جميع أمواله خلال سنوات الثورة نتيجة ممارسات النظام المخلوع وما خلّفته الحرب من دمار، ويقول : إنه بدأ العمل مجدداً في ورشة خياطة بسيطة، محاولاً الانطلاق من الصفر بإمكانيات متواضعة.

وأوضح عبد الرزاق أن العمل يسير اليوم بشكل مقبول، ومع مرور الوقت يأمل في تعويض جزء من الخسائر التي تكبدها خلال السنوات الماضية، مؤكداً أن جودة القطعة المنتَجة محلياً تفوق في كثير من الأحيان جودة المنتج المستورد، نظراً للاهتمام بالتفاصيل والعمل اليدوي، رغم التحديات الكبيرة التي تواجه هذا القطاع.

وحول المواد الأولية، أشار إلى أنها غير متوفرة بشكل دائم، ما يشكّل عائقاً أمام استمرارية العمل، ولا سيما الحاجة المستمرة إلى الخيوط المستوردة التي يصعب الحصول عليها أحياناً، كما وصف بدايات مشروعه بأنها كانت سيئة جداً نتيجة ضعف السيولة المالية وصعوبة تصريف البضاعة في السوق، الأمر الذي زاد من الأعباء في المرحلة الأولى.

ويعتبر عبد الرزاق أن أكثر ما يخيف صاحب أي مشروع حرفي هو ركود السوق وضعف القدرة الشرائية، إذ يؤدي ذلك إلى كساد المنتج وتراجع المبيعات، ما يهدد استمرارية المشروع، مضيفاً: إن تسويق إنتاجه يعتمد بشكل أساسي على وجود التجار في السوق، وليس على وسائل التواصل الاجتماعي، معتبراً أن هذه الوسائل لا تزال الأقل فاعلية في ظل الواقع الحالي.

حرف تتنفس عبر الإنترنت

من جانبه، يقول الحرفي محمد العضم، العامل في مجال صب وصهر المعادن وإعادة تشكيلها: إنه خسر أيضاً جميع أمواله خلال سنوات الحرب، وبدأ اليوم من جديد، مضيفاً: إن هذه الحرفة تعتمد بشكل أساسي على الخبرة والدقة، وتُعد من المهن التي تحتاج إلى مهارة عالية وصبر طويل.

وأوضح العضم أن ما يميّز منتجه عن المنتج الصناعي أو المستورد هو اعتماده على العمل اليدوي بشكل أساسي، ما يمنحه جودة أعلى وطابعاً غير تجاري، على عكس بعض المنتجات الصناعية التي تُصنّع بكميات كبيرة وتهدف بالدرجة الأولى إلى الربح دون التركيز على الجودة أو التفاصيل.

وفيما يتعلق بالمواد الأولية، أشار إلى أن الحصول عليها أصبح أسهل بكثير بعد تحرير سوريا، وبأسعار أقل مقارنة بالفترة السابقة، حيث كان الحرفيون يتعرضون لمضايقات كبيرة، ولم يكن مسموحاً لهم بشراء المعادن إلا من جهات محددة كانت تتحكم بالسوق، مضيفاً: إن أسعار المواد الأولية حالياً تتغير تبعاً لتقلبات سعر صرف الدولار، ما ينعكس بشكل مباشر على تكلفة الإنتاج.

وأكد العضم أن تأثير الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي كان إيجابياً جداً على تسويق الحرفة، إذ أصبح بإمكانه عرض أعماله على المنصات الرقمية والوصول إلى شريحة أوسع من الزبائن، كما أشار إلى الاستفادة من الإنترنت في تطوير العمل الحرفي، من خلال الاطلاع على تجارب جديدة وبعض الخلطات التي تساعد في الوصول إلى القوام المناسب أثناء عملية الصهر والتشكيل.

مشروع منزلي فرصة للمرأة

بدورها، تقول السيدة آية لاذقاني إنها تعمل في مشروعها الصغير من داخل المنزل، حيث قامت بشراء ماكينة خياطة صغيرة وبدأت العمل بها، مستفيدة من إمكانية العمل في بيئة مريحة تناسب ظروفها العائلية.

وأوضحت لاذقاني أن هناك عدداً من الورش التي توفر لها أعمالاً تُنجز من المنزل، وبأجور متناسبة مع طبيعة العمل المنزلي، ما يمنحها مرونة في الوقت، ويتيح لها التوفيق بين العمل ورعاية أطفالها وأسرتها،

مشيرة إلى أن العمل من المنزل مكّنها من مساعدة زوجها في تغطية جزء من المصاريف المنزلية دون الاضطرار إلى الابتعاد عن أطفالها.

واعتبرت أن هذا النوع من المشاريع يشكل مصدر دخل مهماً للعديد من النساء، لا سيما في ظل الظروف الاقتصادية الحالية، وختمت حديثها بالتأكيد على طموحها في تطوير مشروعها، عبر امتلاك ماكينة حديثة وزيادة حجم الإنتاج، على أمل أن يصبح لديها في المستقبل مكان عمل خاص ومشروع مستقر يوفر لها ولأسرتها الأمان المعيشي.

حرف متوارثة تندثر

أما إبراهيم الحاج، صاحب محل فخار، فيقول إنه ورث هذه المهنة عن والده وأجداده، حيث كان للفخار دور أساسي في حياة كل بيت، ولا سيما في حفظ المياه والاستخدامات اليومية، مشيراً إلى أن منتجاتهم كانت في الماضي تحظى بإقبال واسع، وكان معظم الناس ينتظرون بضائعهم.

وأوضح الحاج أن سوق الفخار تقلّص اليوم إلى ما يقارب الربع مقارنة بالسنوات السابقة، خاصة فيما يتعلق بالقطع الكبيرة مثل الجرار والأواني الفخارية المستخدمة في المطابخ، إلا أن هذه المنتجات لم تعد مطلوبة كما في السابق،

مضيفاً أن طبيعة الطلب تغيّرت، حيث بات الشباب يطلبون أطباقاً أو مزهريات للزينة فقط، مع التركيز على الشكل الجمالي أكثر من الجودة أو النوعية.

وحذّر الحاج من أن مهنة الفخار مهددة بالاندثار في حال استمرار هذا الواقع، مؤكداً ضرورة دعم الحرفيين من قبل الحكومة، عبر فتح أسواق داخلية وخارجية لتصريف المنتجات، حفاظاً على هذه المهنة التراثية كي لا تتحول إلى مجرد ذكرى.

ورغم قسوة الظروف الاقتصادية وتراكم آثار الحرب، يواصل الحرفيون في سوريا التمسك بمهنهم باعتبارها أكثر من مجرد مصدر رزق، فهي جزء أصيل من هوية المجتمع وذاكرته الاقتصادية والتراثية،

وبين المحاولات الفردية للصمود وإعادة البناء من الصفر، والمخاوف الحقيقية من اندثار حرف متوارثة، يقف هذا القطاع اليوم أمام مفترق طرق حاسم، فإما أن يُمنح الدعم اللازم ليستعيد دوره الإنتاجي والتنموي، أو أن تستمر خسارته التدريجية بما تحمله من تبعات اقتصادية واجتماعية وثقافية.

الثورة السورية – سوزان لاذقاني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى