
في السنوات الأخيرة، ومع اشتداد أزمة الطاقة في سوريا، بات مشهد انقطاع الكهرباء وندرة الغاز المنزلي مألوفاً في حياة الناس اليومية.
توقّف الطبخ، وتراجعت سبل التدفئة، وغابت أسطوانة الغاز عن متناول الكثيرين، حتى أصبح الحصول عليها خارج البطاقة الذكية سابقاً حدثاً استثنائيّاً.
أمام هذا الواقع القاسي، لجأ السوريون إلى الذاكرة القديمة، بحثاً عن حلولٍ بديلة تحفظ كرامة العيش وتقاوم البرد والجوع، فعادوا إلى ما كان يستخدمه الأجداد: البابور، ذاك الجهاز المعدني البسيط الذي يعمل على الكاز، وشكّل لعقود جزءاً أصيلاً من تفاصيل الحياة المنزلية.
من تراث الأمهات إلى أداة إنقاذ
يرجع أصل البابور إلى بدايات القرن العشرين، حين كان يُستورد من السويد والهند، ويُعرف -محليّاً – باسم بابورالكازأوبابور الطبخ.
يتألف البابور من خزان معدني يُملأ بالكاز (الكيروسين)، ومضخة صغيرة لضغط الهواء داخله، وفوهة نحاسية تمرّعبرها النار بعد التسخين المسبق، لتنتج لهباً أزرق قويّاً يصلح للطهي وتسخين الماء وحتى التدفئة.
كان البابور في الماضي قطعة أساسية في كلّ بيت سوري، لا سيما في القرى والمناطق الجبلية.
إذ كانت الأمهات يتقنّ تشغيله بعناية، ويعرفن متى يجب تسخين الرأس، ومتى يُضبط اللهب، وكيف تُنظّف الفوهة بالإبرة الرفيعة الخاصة به.
وبينما أزاح الغاز والكهرباء البابور إلى ركن النسيان، ظلّ وجوده في ذاكرة الكبار رمزاً للبساطة والاعتماد على الذات.
عودة اضطرارية في زمن الأزمات
مع اشتداد الأزمة الاقتصادية وصعوبة الحصول على الغاز، عاد البابورإلى الحياة، ولكن ليس كقطعة تراثية للزينة، بل كوسيلة عملية وضرورية للبقاء تقول السيدة ميساء معلا:بعد أن أصبحت أسطوانة الغاز حلماً بعيد المنال، خلال سنوات الأزمة أخرجت البابورالقديم ، نظفته وأعدت تشغيله.
وبت أطبخ عليه الطعام وأغلي الماء للاستحمام، صحيح أنه متعب بعض الشيء، لكنّه وفّرعليّ الكثير.
“فيما رائحته ذكّرتني بأيام أمي وجدّتي، حيث كنا نصحو على صوت المضخة وننتظر غليان الشاي فوق لهبه الأزرق.
“أما أبو عبدووهو حرفي من مدينة داريا يعمل في تصليح الأدوات المعدنية، فقال في السنوات الماضية ، بدأ الناس يبحثون عن البابورات القديمة.
البعض يشتريها من الأسواق الشعبية، وآخرون يطلبون تصليحها، صرنا نعيد تأهيلها ونبيع قطع الغيارمثل الفوهات والمضخّات.
وأوضح بأن هناك من طوّر البابور بطرق مبتكرة، فركّب له أنبوباً أطول أو أضاف مروحة صغيرة تعمل على البطارية لتوزيع الحرارة، حتى أصبح أكثر أماناً وكفاءة.
بين الاقتصاد والخطر
لا يمكن إنكار أن البابور يمثّل اليوم خياراً اقتصاديّاً معقولاً، فهو لا يحتاج إلى كهرباء، ويستهلك كمية قليلة من الكازالمتوفر في بعض المناطق بأسعار مقبولة.
كما أنّ تشغيله لا يتطلب تعقيداً كبيراً، ويمكن نقله بسهولة من مكان إلى آخر.
ولهذا أصبح خياراً مفضلاً في القرى والمخيمات، حيث لا تتوفر مصادر طاقة ثابتة،لكن، في المقابل، يحمل البابورمخاطر لا يستهان بها.
وفي هذا السياق تشيرالمهندسة الكيميائية هالة عبد الرحمن بأن البابور يعتمد على احتراق الكاز بالضغط، وأي خلل في الفوهة أو تسرب في الخزان قد يؤدي إلى حريق أو انفجار.
كما أن استخدامه في الأماكن المغلقة يشكّل خطراً على الصحة بسبب انبعاث الغازات.”وتنصح باستخدامه في أماكن جيدة التهوية، وتجنّب تشغيله بالقرب من المواد القابلة للاشتعال.
ورغم هذه التحذيرات، فإن معظم المستخدمين يتعاملون معه بحذرٍغريزي مكتسب من خبرة الأجيال السابقة.
البابورفي الذاكرة الشعبية
في الموروث الشعبي السوري، يحتل البابورمكانة خاصة، فهو ليس مجرد أداة للطهي، بل رمز للحياة اليومية القديمة.
وقد كان يُستخدم لإعداد الشاي والقهوة والمأكولات الشعبية، كما كان يرافق العائلات في الرحلات والنزهات قبل عقود.
تقول أم عدنان، وهي سيدة في السبعين من عمرها:لا أنسى أيام الشتاء الطويلة عندما كنا نجتمع حول البابورننتظرغليان الحليب. كانت له رائحة مميزة ودفء لا يشبه أي شيء آخر.
“اليوم، حين عاد البابورإلى الواجهة، عاد معه ذلك الدفء المعنوي الذي افتقده الناس في زمن البرد والضيق.
لم يعد مجرّد أداة، بل أصبح رمزاً للمقاومة اليومية في وجه الظروف الصعبة.
إبداع سوري في مواجهة الأزمة
لم يكتفِ السوريون بإحياء البابور -كما هو- بل أضفوا عليه لمسات من الإبداع،فقد ظهرت على مواقع التواصل تجارب شبابية لتحويل البابورإلى مدفأة صغيرة، أو ربطه بمبادل حراري لتسخين المياه، وحتى استخدامه كمنبع طاقة لتوليد الكهرباء بطرق بدائية.
هذه الابتكارات تعكس روح التكيّف التي تميز السوريين، وقدرتهم على استخراج الحلول من رحم المعاناة.
البابور بين الحاجة والذاكرة
عاد البابور إلى الحياة السورية اليوم ليس كترفٍ أو حنينٍ للماضي، بل كحاجة فرضتها الأوضاع الاقتصادية والظروف المعيشية الصعبة.
ومع كل شعلة زرقاء تضيء مطبخاً صغيراً في ريف بعيد، يستعيد السوريون جزءاً من ذاكرتهم الجمعية التي قاومت النسيان، ويثبتون مجدداً أن الإبداع يولد من الحاجة.
الثورة- سمر حمامة













