الجامع الأعلى الكبير بحماة.. شاهد على تعاقب 3 حضارات كبرى
في قلب حي المدينة، غرب قلعة حماة، ينتصب الجامع الأعلى الكبير شامخاً كأحد أقدم مساجد العالم الإسلامي، جامعٌ لا يُختزل بوظيفته الدينية، بل يُعدّ سجلاً معمارياً حيّاً يوثق تعاقب ثلاث حضارات كبرى على مدى أكثر من 1400 عام.
شُيّد عام 17 هـ (636م) على يد الصحابي الجليل أبي عبيدة بن الجراح، فوق موقع كان في الأصل معبداً رومانيّاً منذ القرن الثالث الميلادي، ثم تحوّل إلى كنيسة بيزنطية كما تشير النقوش المؤرخة بعام 595 ميلادي، قبل أن يكتسي بطابع العمارة الإسلامية ويصبح أحد أبرز معالم المدينة الدينية والتاريخية.
موقع إستراتيجي في قلب الحضارة
يتموضع الجامع في حي المدينة، ويشكّل مع حي الباشورة نواة السكن في العصر الأيوبي، وهما محيطان بالقلعة ونهر العاصي، حيث الماء الذي هو أساس الحياة، هذا الموقع الإستراتيجي،
كما يوضح الباحث التاريخي وعضو الجمعية العلمية التاريخية غالب الصواف، جعل من الجامع مركزاً دينياً وعلمياً، ومعلماً حضارياً متجذراً في ذاكرة المدينة، وركيزة أساسية في تطور حماة العمراني والثقافي.
ملامح معمارية تنطق بالتاريخ
يتوسط صحن الجامع “قبة الخزنة”، التي أمر ببنائها الخليفة عمر بن الخطاب لحفظ أموال المسلمين، وتقوم على أعمدة كورنثية تعكس التداخل الفني بين الحضارات القديمة، وتبرز المآذن بتصميمين مختلفين: إحداهما مربعة الشكل والأخرى مثمنة،
فيما تزيّن جدرانه كتابات كوفية تُعد من أرقى نماذج الخط العربي في العمارة الإسلامية، ويضم الجامع منبر زين الدين كتبغا، المصنوع من خشب الجوز المطعّم بالصدف والعاج، إلى جانب ضريحي الملكين الأيوبيين المنصور والمظفر، اللذين جعلا من حماة مركزاً للعلم والأدب في القرن الثالث عشر الميلادي.
ترميم يحاكي روح الماضي
رغم الأضرار التي لحقت بالجامع خلال عدوان النظام البائد على المدينة عام 1982، حيث تهدّم المنبر وتضررت أجزاء من البناء، فقد أُعيد ترميمه بأيدي الفنان النجار نعسان عكعك والخطاط طارق الشامي، اللذين أعادا نجارة المنبر وضريحي الملكين بروح الماضي وتقنياته، مع الحفاظ على شكل المنبر الأصلي وإعادة الآيات القرآنية بنفس الخط والزخرفة، ما أعاد للجامع رونقه التاريخي والمعماري.
وعلى مر العصور، ظل الجامع الأعلى الكبير منارةً للعلم والدين، محتضناً حلقات الدروس والخطابة، وشاهداً على تطور العمارة الإسلامية بامتزاج الطراز الأموي والمملوكي والأيوبي. واليوم، يُعد هذا الصرح وجهة بارزة للسياح والباحثين والمهتمين بالتراث، وذاكرة حيّة تجسّد تاريخ حماة وهويتها الحضارية.
يقف الجامع الأعلى الكبير في حماة كتحفة معمارية شاهدة على تلاقي الحضارات عبر أكثر من أربعة عشر قرناً، من معبد روماني إلى كنيسة بيزنطية، ثم إلى منارة إسلامية، تتجسد في جدرانه طبقات التاريخ وروح المدينة. في قلب حي المدينة، يروي الجامع قصة حماة، حيث تتعانق العمارة والدين والعلم في مشهد لا يُنسى.
سانا