
في دمشق القديمة، حيث الأزقة الضيقة تحيط بها الجدران الطينية العتيقة، لا يزال صدى دقّات الخشب من النول اليدوي يرنّ خافتاً في أركان بعض الورش.
قد تمرّ بسرعة ولا تلاحظ، لكنه في الحقيقة موجود. يشهد على حرفة عمرها قرون وعلى تاريخ مدينة لم تتوقف روزنامته عن المشي رغم كلّ الأزمات.
هذا الصوت هو البروكار الدمشقي، القماش الفاخر الذي جمعَ بين الحرير والخيوط الذهبية أو الفضيّة، ليصنع قطعة من الفن كما يصنعُ المجتمع نسيجه الخاص من تنوعه وتاريخ أفراده.
البروكار ليسَ مجرّد نسيج، بل هو مرآة للمدينة والمجتمع، كل خيط فيه يرمز إلى صبر الحرفيين ودقة أيديهم، تماماً كما يرمز كل فرد في المجتمع السورّي إلى قطعة من الوطن. منذ مئات السنين، كانت دمشق مشهورة بالبروكار، وكانت أنوالها تملأ الأسواق، وتزور القطع العالم كله.
في العهد الأموي، كان البروكار يُنسج للقصور، وفي العهد العثماني كان يُهدى للسلاطين. كان يُستخدم في الأثواب الملكية، والستائر الفاخرة، وحتى في تغليف المصاحف والمخطوطات.
لكن اليوم، الحرفة تكاد تصبح شيئاً من الماضي، كما يكاد التماسك المجتمعي يتبدّد، بعد سنوات الحرب والنزوح والاختلافات.
وفي تقارير لمنظمات دولية، ذُكر أن سورية فقدت خلال العقد الأخير أكثرَ من نصف سكانها بين نزوح ولجوء وهجرة. هذا الرقم الصادم يوازي في لغة البروكار أن ينقطع نصف الخيوط من النول. فكيف يمكن للنسيج أن يستمرّ متماسكاً؟
في هذا الواقع الممزق، تبرز بعضُ الأسماء لتثبت أن النسيج لم يمت بعد… يواصل أحمد الشكاكي، الحرفي الدمشقي، الجلوس أمام نوله اليدوي في ورشته الصغيرة، ينسج بخيوط الحرير والذهب ويحافظ على هذا التراث الفني.
ليس فقط لأنّه حرفة أو مصدرُ رزق، بل لأنّه رسالة عن استمرار الحياة والذاكرة والهوية. علّم الشكاكي أجيالاً من الحرفيين وحافظ على المعرفة، رغم أنّ أعداد من يزاولون البروكار انخفضت كثيراً بعد الثورة السوريّة.
إلى جانبه، يواصل محمد رنكوس وإبراهيم الأيوبي العمل على نوليهما الخاصين، كل منهم يحاول الحفاظ على ما تبقى من هذه الحرفة النادرة.
لم يعد هناك أسواق كبيرة تبيع البروكار، ولم يعد الطلب كما كان في الخمسينيات والستينيات، لكن هؤلاء الحرفيين ما زالوا يثبتون أنّ الخيط الواحد يمكن أن يحمل معه تاريخاً كاملاً، وأنّ الإرادة أقوى من الظروف.
أصبح البروكار بطريقة ما رمزاً للمجتمع السوري الممزّق، لأنّ الحرب لم تترك المدينة كما كانت. الأحياء القديمة التي كانت مليئة بالناس صارت خالية أو شبه مهجورة؛ تشتّت ملايين السوريين في الداخل والخارج، وغالباً ما فقدوا الروابط الاجتماعية التي كانت تربطهم بعضهم ببعض وبأرضهم.
فكما تتعرّض قطعة البروكار للقطع والانقطاع إذا ضعفت الخيوط، هكذا هو المجتمع السوري اليوم؛ مجتمع ممزّق بحاجة إلى خيوط جديدة ليعود إلى اللوحة تكاملها.
لكن الحكاية لا تتوقف عند الحدود السورية؛ محمد سعيد شيخ جبر، أحد الحرفيين الدمشقيين، أخذ نول عائلته إلى النمسا حيث يواصل العمل عليه.
هناك، في قلب أوروبا، يعيد إنتاج البروكار الدمشقي، وكأنّ خيوط النول تحملُ معه ذاكرة دمشق التي في قلبه، وتثبت أنّ التراث يمكن أن يعيش رغمَ الغربة والبعد عن الأرض الأم.
قصته تذكّرنا بأنّ الثقافة والهوية لا تضيعان مع المسافات، وأنه يمكن للنسيج أن يُعيد نفسه مهما كانت الظروف صعبة.
ومن المفارقات أنّ ملكة بريطانيا الراحلة إليزابيث الثانية ارتدت في حفلِ زفافها عام 1947 فستاناً من البروكار الدمشقي. كان ذلك يوماً لحظة مجد للنسيج السوري؛ قطعة خرجت من أنوال دمشق لتغزو العالمَ بأناقتها.
وقد كان المجتمع السوري أيضاً قطعة نسيج مدهشة؛ مزيج من كردي وعربي، مسلم ومسيحي، حلبي وحمصي ودمشقي.
جميعهم تقاطعت خيوطهم لتنسج لوحة اسمها سورية. لكن كما أن الفستان يحتاج إلى صانعٍ ماهر يحافظُ على تناسقه، كان الوطن بحاجة إلى حارسٍ لوحدته، وحين غاب هذا الحارس تفككت الخيوط.
يعلّمنا البروكار الدمشقي درساً عميقاً، وهو لا يقتصر على الفنّ والحرفة، بل يمتد إلى الإنسان والمجتمع: “حتى إذا انقطع خيط، يمكن إعادة ربطه، يمكن أن يعاد بناء اللوحة خطوة بخطوة، كما يمكن للمجتمع أن يجد طريقه إلى النسيج مرة أخرى”.
كل فرد مهما بدا صغيراً خيط لا غنى عنه في قماش الوطن، وفي دمشق، وبين هذه الورش القليلة، ما زال هناك أمل؛ الألوان لا تزال موجودة، والنقوش لا تزال ممكنة، والخيط الأخير لم ينقطع بعد.
خلال الجولة ضمن سوق المهن اليدوية في دمشق، يمكن ملاحظة أن عدد الأنوال اليدوية صار محدوداً للغاية، فهو ربما لا يتجاوز أصابع اليد.
لكن وجودها يثبت أن الحرفة لا تزال حيّة. ورغم أنّ بعض الورش أغلقت بسبب الحرب وارتفاع تكاليف المواد الخام، فإنّ بعض الحرفيين يواصلون العمل، يحافظون على حرفةٍ تعكس روح المدينة وهويتها، تماماً كما يحاول بعض السوريين الحفاظ على روابطهم رغم المسافات والجراح.
ظهرت في السنوات الأخيرة مبادرات فردية ومؤسّساتية لإحياء البروكار، منها ورش تدريبية صغيرة في دمشق القديمة، ومحاولات لتوثيق الحرفة رقمياً.
بدأت منظّمات ثقافية تعرض البروكار في معارض دولية، كجزء من الهوية السورية التي لا تموت. تشبه هذه المبادرات، وإن كانت محدودة، الخيوط الأولى في نول جديد، يمكن أن يُعيد نسج الحرفة والمجتمع معاً.
لا تزال دمشق تنسج، ولو بخيوط قليلة، وسورية، رغم جراحها، لا تزال تحلم. البروكار الدمشقي الذي صمد قروناً، رغم الحروب والتغييرات، يذكّر السوريين بأن الإرث لا يموت، وأن النسيج الحقيقي للمجتمع يمكن أن يُعاد بناؤه خيطاً بخيط، ورابطة برابطة.
كل حرفي مستمر في الورش، كل خيط يُضاف إلى النول شهادة على أنّ الهوية والذاكرة لا تُمحيان.
وكما يُعيد البروكار رسمَ أنماطٍ معقدة ومتداخلة لتصبح لوحة متكاملة، يمكن للسوريين أيضاً أن يجدوا طريقهم إلى إعادة نسجِ مجتمعهم ليصبح وطناً واحداً غنياً بألوانه وتنوعه، متماسكاً رغمَ كل أنواع الفقد والتشرذم.
كل خيط يمثل أملاً. كل قطعة بروكار جديدة وعد لنا نحن السوريين بأنّ الذاكرة والإنسانية لا تزالان حيتين، وأن النسيج يمكن أن يكتمل من جديد.
العربي الجديد – سالي علي








