
بعد أسابيع من قرار رفع أسعار باقات الإنترنت والخدمات الخلوية في سورية بنسبة غير مسبوقة، لا تزال تداعيات الخطوة تتفاعل بقوة في حياة المواطنين اليومية،
وسط غضب لم يخفت واحتجاجات رقمية لم تتراجع، فالزيادة التي طاولت كل الباقات تقريباً لم تعد مجرد خبر اقتصادي، بل تحولت إلى أزمة متشابكة أثرت على الطلاب والموظفين والأهالي وأصحاب الأعمال الصغيرة.
ورغم مرور الوقت ومحاولات الشركات الدفاع عن قراراتها تحت ذريعة “تحسين الشبكة” و”معالجة الأضرار”، يرى مواطنون أن الخطوة لا تعكس سوى احتكار بلا رقيب، في سوق تعاني أصلاً من ضعف في الجودة وغياب المنافسة،
ويطالب الشارع بالتراجع عن القرار خاصة أن الشركات حققت أرباحاً ضخمة خلال الفترة الأخيرة، ما زاد من الشكوك حول دوافع الرفع وطبيعته.
فقد أعلنت الشركتان المشغلتان، سيرياتل وMTN، منتصف الشهر الماضي، عن قرار “توحيد الباقات”، ورفعت الأسعار حيث قفزت الباقة اليومية من 500 ليرة إلى 6 آلاف ليرة، أي بزيادة 1100%،
فيما ارتفعت الباقة الأسبوعية من 2000 ليرة إلى 12 ألف ليرة، بنسبة 500%، والشهرية التي كانت تكلف 150 ألفاً تجاوزت 300 ألف ليرة (نحو 25 دولاراً أميركياً).
وقال أحمد تقي الدين، الموظف الحكومي من حي الزاهرة في دمشق، وهو يحاول شرح أثر الزيادة على حياة أسرته: “نحن أصلاً رواتبنا لا تكفي أسبوعاً واحداً، فكيف بعد هذه الزيادة التي أربكت كل حياتنا. أصبحنا ندفع على تشغيل الإنترنت مبلغاً يعادل قسط مدرسة لأولادنا، لم يعد الإنترنت رفاهية نستطيع الاستغناء عنها، كل تفاصيل حياتنا باتت مرتبطة بالاتصال بالشبكة”.
وأضاف لـ”العربي الجديد”: “إذا انقطع الإنترنت، نعجز عن إنجاز أبسط المهام، معاملاتنا الحكومية، أعمالنا، تواصلنا مع الأقارب، حتى الدروس المدرسية، كلها صارت أونلاين”. ويتابع: “نحن لا نطلب عروضاً أو خدمات مميزة، نريد فقط أن تبقى الباقة في حدود طاقتنا، وأن نحصل على خدمة محترمة مقابل ما ندفعه، أما الآن فندفع أكثر مما نستطيع، ونحصل على إنترنت أبطأ مما ينبغي، إنها معادلة قاسية”.
أما ديمة الزعبي، وهي طالبة هندسة في جامعة حلب، قالت إن قرار رفع أسعار الباقات شكل “صدمة مفاجئة للطلاب الذين يعتمدون على الإنترنت بشكل يومي في دراستهم، والباقات الساعية، التي كانت تعد الخيار الأكثر توفيراً لشريحة واسعة من الطلاب، اختفت من دون سابق إنذار، لترتفع تكلفة الدراسة عبر الإنترنت إلى مستويات غير محتملة”.
وتوضح ديمة لـ”العربي الجديد” أنها كانت تعتمد على هذه الباقات لإنجاز محاضراتها ومراجعاتها اليومية، لكن الوضع تغير تماماً بعد الزيادة الأخيرة، إذ باتت تحتاج إلى نحو ستين ألف ليرة سورية لتغطية يومين فقط من متابعة الدروس والمحاضرات،
الأمر الذي ترى أنه يتجاوز قدرة معظم الطلاب، خصوصاً أولئك الذين يعيشون بعيداً عن أسرهم أو يعملون إلى جانب الدراسة لتأمين مصروفهم.
وتلفت إلى أن العديد من زملائها يدرسون اليوم بقلق مستمر خشية نفاد الباقة في منتصف محاضرة أو أثناء تسليم تكليف جامعي، مؤكدة أن هذه الزيادة “وضعت الطلاب أمام خيارين أحلاهما مر، إما تقليص ساعات الدراسة، أو دفع مبالغ لم تكن يوماً ضمن حساباتهم”.
أما سامر الكزبري، وهو موظف مبيعات يعمل من منزله في حماه، فقال إن “رفع أسعار الإنترنت أثر بشكل مباشر على حياتي العملية واليومية المرتبطة بالإنترنت، من متابعة الزبائن إلى إرسال العروض وإتمام المعاملات، فقبل الزيادة، كنت أدفع نحو 25 ألف ليرة سورية شهرياً للباقات، واليوم أصبح المبلغ أكثر من 100 ألف ليرة، والمشكلة الأكبر أن راتبي لم يتغير، بينما المصروفات ارتفعت بشكل غير متناسب”.
ويضيف لـ”العربي الجديد”:” إذا استمرت الأسعار بهذا الشكل، فقد اضطر الشهر القادم إلى ترك عملي أو البحث عن حلول بديلة، وهو أمر صعب جداً في الوقت الحالي، لأن عملي كله قائم على الاتصال المستمر بالشبكة”.
وأمام هذا الجدل، سارعت وزارة الاتصالات وتقانة المعلومات إلى نفي علاقتها المباشرة بالقرار، مؤكدة أن شركتي الاتصالات مستقلتان مالياً وإدارياً،
لكن الوزارة طالبت الشركتين بتقديم تبرير واضح لهذه الزيادات، وربطتها بضرورة تحسين الخدمة خلال ستين يوماً عبر خطط جغرافية وجدول زمني واضح، ومؤشرات أداء قابلة للقياس، في محاولة لتهدئة غضب الشارع.
من جهتها، حاولت سيرياتيل امتصاص الغضب الشعبي بإصدار بيان أكدت فيه تفهمها لضغوط المشتركين، وقالت إنها تعمل على ترميم مئات الأبراج المتضررة، وإضافة أبراج جديدة بتقنيات أحدث، وإطلاق باقات أكثر تنظيماً،
وتقديم خصومات تصل إلى 25% لفئات محددة كالطلاب وذوي الهمم، إلا أن هذه التطمينات لم ترق للكثيرين، خصوصاً مع تقليص عدد الباقات من 200 باقة إلى 15 باقة فقط، وإلغاء الباقات الساعية التي كانت الأكثر شعبية بين الطلاب.
من جانبه، رأى الخبير الاقتصادي ياسر الحداد أن السوق السورية للاتصالات تعمل ضمن إطار احتكاري شبه كامل، حيث يفتقر القطاع إلى منافسة فعلية، ما يمنح الشركات العاملة القدرة على رفع الأسعار من دون أي مخاوف من فقدان العملاء،
ويشير الخطيب إلى أن المشكلة تتجاوز مجرد ارتفاع الأسعار، إذ تتعلق أيضاً بعدم مراعاة ارتباط الأسعار بالدخل الحقيقي للمستهلك السوري، وهو ما يزيد من وطأة الإجراء على المواطنين مقارنة بدول الجوار، حتى لو كانت الباقات تبدو أرخص من حيث القيمة النقدية.
وأضاف الحداد لـ”العربي الجديد” أن غياب الرقابة الحقيقية على جودة الخدمة يجعل أي زيادة في الأسعار غير مرتبطة بتحسين الأداء، وهو ما يعني استمرار التدهور في مستوى الخدمة رغم ارتفاع التكاليف على المستهلكين،
وحذر من أن الوضع الحالي يعكس خللاً هيكلياً في سوق الاتصالات السورية، حيث تبقى الأسعار مرنة بقدر أرباح الشركات، بينما يظل المواطن هو الطرف الأكثر ضعفاً في المعادلة الاقتصادية والاجتماعية.
العربي الجديد












