
في خطوة وُصفت بالمفصلية، جاء قرار رفع الرواتب بنسبة 200 للعاملين والمتقاعدين في الدولة ليترك انطباعات مشجعة ما أثار موجة تفاعل واسعة في الأوساط الاقتصادية والشعبية.
وبينما رحّب كثيرون بهذه الخطوة من حيث المبدأ، تساءل آخرون عن جدواها في ظل غياب إجراءات مرافقة تضمن استقرار الأسعار وتحفيز عجلة الاقتصاد المتوقفة منذ سنوات.
وفي لقاء مع الدكتور مهيب صالحة أستاذ الاقتصاد في الجامعة الدولية الخاصة، للوقوف على الأبعاد الاقتصادية لهذا القرار، وتحليل تداعياته المحتملة، واستخلاص الدروس من تجارب مماثلة.
قال د. صالحة: دينامو الاقتصاد هويته، وهوية الاقتصاد يحددها السوق، والسوق عرض وطلب، والعرض على المستوى الوطني هو العرض الكلي أي ما ينتجه الاقتصاد من سلع وخدمات لإشباع حاجات الناس المتزايدة، سواء بسبب الزيادة السكانية او بسبب تحسن مستوى ظروف الحياة. والإنتاج الوطني في أي دولة لا يكفي لسد جميع احتياجات الناس بسبب ندرة الموارد الاقتصادية ( محدوديتها )، يتم سد الفجوة بالتبادل الدولي ( استيراد وتصدير ).
و السوق لا يكتمل دون الطلب الفعّال، أي الرغبة والقدرة على الشراء، وهنا يأتي دور الرواتب والأجور كعنصر أساسي في تحفيز الطلب الكلي، خاصة في بلد مثل سوريا تلعب فيه الحكومة دوراً محورياً في النشاط الاقتصادي.
وأوضح: ان “كتلة الرواتب والأجور في حسابات الدولة طيلة عقود من زمن النظام المخلوع كانت ضئيلة قياساً بالإنفاق العام للدولة… لم تكن زيادات الرواتب والأجور المتكررة تفي بغرض إعادة التوازن بين معدلات التضخم ومعدلات الأجور… معظم تلك الزيادات كان تضخمياً… بمقارنة تلك الزيادات بالزيادة التي منحتها الحكومة الحالية (٢٠٠%)
يمكن القول، مبدئياً، أنها زيادة جوهرية وجذرية، علاوة عن تحسّن سعر صرف الليرة السورية بعد الثامن من كانون الأول ٢٠٢٤، وانعكاسه على تخفيض أسعار السوق، وهذا التقييم مرهون فقط بعدم لجوء التجار إلى رفع أسعار بضائعهم، وهذا يتوقف على قيام مؤسّسات الدولة المعنية بفرض رقابة دائمة على السوق، ومحاسبة الذين يخرقون قواعدها وشروطها”.
وعن احتمال تحريك السوق في حال بقيت الأسعار مستقرة، أشار:”من الطبيعي أن يكون الغرض من زيادة الرواتب الأخيرة هو ردم الفجوة بين معدل الأجور ومعدل التضخم، بهدف منح السوق إمكانات تحفيزية تنعكس إيجاباً على الاقتصاد الوطني…
لكن هذه الإضافة لا تكفي لوحدها، لأن شروط عودة الاقتصاد السوري إلى الحياة بصورة طبيعية كثيرة ومتعددة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، داخلياً وخارجياً، إقليمياً ودولياً… عموماً إذا لم يرتفع المستوى العام للأسعار على إثر زيادة الرواتب فإن انعكاساته مهمة من الناحية الاقتصادية”.
وفيما يخص قدرة الحكومة على تمويل الزيادة دون اللجوء إلى حلول تضخمية، علّق قائلاً:
“من أين المال اللازم لتغطية هذه الزيادة؟… سؤال مهم وفي محلّه لأن الدولة الآن في طور البناء من جديد، وفي ظل هذه الأوضاع الصعبة، ليس أمام الحكومة سوى الاعتماد على منح خارجية من الدول العربية الصديقة وخاصة قطر والسعودية…
لكن هل هذا المصدر المؤقت يكفي؟ برأيي لا يكفي وغير مضمون لأنه يخضع لاعتبارات متغيرة… الحفاظ على قوة هذه الزيادة مرهون بانفتاح السوق على الخارج وتدفق رؤوس الأموال الوطنية والعربية والأجنبية للمشاركة في إعادة الإعمار… وهذا مرهون بنجاح الحكومة في توفير بيئة أعمال جاذبة ومستقرة”.
ويرى صالحة أن قدرة الحكومة على الحفاظ على أثر هذه الزيادة مشروطة بانفتاح السوق على الاستثمارات، ما يتطلب بيئة أعمال مستقرة وجاذبة وهذا ماتؤشر إليه بعض الأنشطة الاقتصادية التي بدأت..
وحول إمكانية تحريك الاقتصاد نوه إلى:” إذا حافظ معدل التضخم على مستويات ثابتة نسبياً فإن زيادة الرواتب الأخيرة ستحافظ على مستويات ثابتة نسبياً في معدل الأجور… قد لا تتناسب بشكل كامل مع معدّل التضخّم، لكن زيادات مماثلة في أجور العاملين في القطاع الخاص قد تؤدي إلى وجود توازن نسبي بغرض تحريك عجلة الاقتصاد، من خلال عودة الصناعات التي غادرت البلاد خلال الحرب، وتحرير السوق من القيود التي كانت تفرضها الحكومات السابقة”.
وحول ما يجب أن يرافق هذه الخطوة لضمان نجاحها، شدد :”لكي تحقق زيادة الرواتب أهدافها الاقتصادية يجب أن يرافقها عملية إصلاح اقتصادي وإداري مؤسساتي، تحقيق استقرار سياسي وأمني بالإسراع بتنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية والمشاركة الوطنية، تفعيل دور المؤسسات الرقابية وحماية المستهلك،
وزيادة رواتب العاملين لدى الحكومة لا يفي بالغرض بدون زيادات مماثلة في مستويات الأجور في القطاع الخاص، وخاصّة أن التوجّه الاقتصادي الجديد للدولة هو اقتصاد سوق تنافسية يراعي مصالح الدولة واحتياجات الأفراد”.
و أي تحسن في الطلب الكلي مفيد إذا نجحت الحكومة بضبط السوق… وتحسين سعر صرف الليرة السورية من خلال تدفق الأموال من الخارج سوف يساهم أكثر برفع القوة الشرائية لكتلة الرواتب والأجور ويحافظ على توازن مقبول بين الأجور والأسعار بما يؤمن استقرار السوق ويحرّك عجلة الإنتاج على المستويين الكلّي والجزئي”.
وتشكل زيادة الرواتب بنسبة 200% خطوة نوعية لتحسين معيشة العاملين، إلا أن نجاحها يرتبط بمجموعة من العوامل، أبرزها ضبط الأسعار، تأمين مصادر تمويل مستدامة، وتنفيذ إصلاحات اقتصادية وهيكلية شاملة.
الثورة– هند العرموني