
شهدت العقود الأخيرة طفرة غير مسبوقة في مجالي التكنولوجيا والعملات الرقمية، حيث ظهرت شركات ناشئة مبتكرة تعد بتغيير العالم وتحقيق أرباح هائلة.
ومع ذلك، لم تكن كل الوعود صادقة، فظهر عدد من الشخصيات التي استغلت ثقة المستثمرين والجمهور لممارسة الاحتيال المالي والتلاعب بالحقائق.
هذه الشخصيات لم تؤثر فقط على المستثمرين، بل هزّت الثقة في صناعة التكنولوجيا الرقمية والعملات المشفرة بأكملها.
1. إليزابيث هولمز: من أصغر مليارديرة عصامية إلى السجن
إليزابيث هولمز ولدت في 3 فبراير 1984 بواشنطن العاصمة، وأصبحت واحدة من أكثر الشخصيات جدلاً في عالم الأعمال الأمريكي.
في مطلع العقد الماضي، اكتسبت شهرة واسعة باعتبارها أصغر مليارديرة عصامية في العالم بعد تأسيس شركة Theranos عام 2003، التي كانت تعد بتطوير تقنية مبتكرة لفحص الدم باستخدام قطرة واحدة فقط.
هذه التقنية وعدت بإجراء أكثر من ألف تحليل طبي دون الحاجة لسحب عينات كبيرة من الدم، وفتحت لها أبواب التمويل من كبار المستثمرين والسياسيين ورجال الأعمال.
وصلت قيمة ثروتها الشخصية عام 2014 إلى نحو 4.5 مليارات دولار، فيما بلغت قيمة الشركة نحو 9 مليارات دولار .
لكن التحقيقات الصحفية الاستقصائية، أبرزها تقرير وول ستريت جورنال, كشفت أن جهاز “إديسون” لم يكن قادراً على تقديم نتائج دقيقة وموثوقة.
الشركة اعتمدت على تحاليل مختبرية خارجية لتغطية فشل الجهاز، ما أدى إلى تضليل المستثمرين والعملاء. بيئة العمل كانت مشحونة بالضغط النفسي، وأسفرت عن مأساة وفاة أحد العلماء العاملين مع الشركة، ما أثار التساؤلات حول أخلاقيات إدارة هولمز .
تدقيق مكثف من الجهات التنظيمية، بما في ذلك إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) ومراكز الخدمات الطبية والرعاية الصحية (CMS)، أدى إلى منع هولمز من إدارة مختبر طبي لمدة عامين، وإيقاف الشركة عن تلقي تعويضات الرعاية الصحية.
في مارس 2018، وجهت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية اتهامات بالاحتيال لهولمز وشريكها راميش بالواني، بزعم جمع أكثر من 700 مليون دولار من المستثمرين باستخدام بيانات مضللة حول فعالية التكنولوجيا وفقا لشبكة “BBC”.
بدأت المحاكمة في أغسطس 2021، وأدينت هولمز في يناير 2022 بأربع تهم تتعلق بالاحتيال على المستثمرين، بينما برئت من التهم المتعلقة بالمرضى.
وفي نوفمبر 2022، صدر حكم بالسجن أكثر من 11 عامًا، لتبدأ تنفيذ العقوبة في مايو 2023 في سجن فيدرالي بتكساس. كما أُدين بالواني بالاحتيال الإلكتروني والتآمر، وحُكم عليه بالسجن لأكثر من 12 عاماً.
خلال المحاكمة، زعمت هولمز أنها كانت تحاول إدارة الشركة بحسن نية، وأن الأخطاء كانت نتيجة طموحات كبيرة وتحديات إدارة مشروع مبتكر.
لكن المحكمة رفضت هذه الحجج وأكدت أن اختبارات الدم التي وعدت بها لم تكن سوى “سراب”، وأن الإنجازات المروجة كانت نصف حقائق وأكاذيب صريحة، وأيدت دفع 452 مليون دولار كتعويضات للضحايا.
2. روجا إغناتوفا: ملكة العملة الرقمية الغامضة
روجا إغناتوفا، الألمانية ذات الأصول البلغارية، أسست عملة OneCoin التي كانت تُسوّق كبديل للبيتكوين، ووصفت بأنها “قاتلة البيتكوين”.
في يونيو 2016، ظهرت على منصة ويمبلي أرينا في لندن أمام آلاف الحاضرين لتعلن أن OneCoin ستصبح العملة المشفرة الأولى عالميًا، وستتيح “للجميع الدفع في أي مكان”، مما جذب استثمارات كبيرة من مستثمرين عالميين .
الوعد بالتحرر المالي وإمكانية تحقيق أرباح خيالية جعل المستثمرين يثقون بها، لكن العيب كان غياب البلوك تشين، وهو أساس الأمان في العملات المشفرة.
OneCoin اعتمدت على التسويق الهرمي، حيث كان العائد يأتي من انضمام أعضاء جدد، وليس من أي ابتكار تكنولوجي حقيقي. استخدمت إغناتوفا شبكات تسويقية لجني ملايين اليوروهات، وأنفقت على عقارات فاخرة وحفلات على يختها الفاخر.
في أكتوبر 2017، اختفت عن الأنظار، تاركة شقيقها كونستانتين يدير العملية قبل اعتقاله عام 2019 بتهمة الاحتيال.
وجهت لها الولايات المتحدة تهماً غيابية بالاحتيال المالي وغسل الأموال، وما زالت الأموال صعبة التتبع بسبب هيكليات معقدة وشركات وهمية.
3. سام بانكمان-فريد: انهيار إمبراطورية FTX
أسس سام بانكمان بورصة FTX عام 2019، وأصبحت واحدة من أكبر منصات تداول الأصول الرقمية عالميًا، وجذب الانتباه بسبب “الإيثار الفعال” وارتباطه بقضايا إنسانية.
في نوفمبر 2022، كشف تقرير CoinDesk أن FTX استعملت عملتها الخاصة FTT كضمان لقروض لشركة Alameda Research، ما أدى لانهيار ثقة المستثمرين وسحب جماعي للأموال.
المنصة انهارت خلال أيام مع عجز مالي يقدر بـ 8 مليارات دولار. قبض على سام ووجهت له تهم تشمل الاحتيال وغسيل الأموال واختلاس أموال العملاء ، وفقا لـ “Business Insider”.
حُكم على سام بالسجن 25 عاماً، مع إلزامه بدفع 11 مليار دولار كتعويضات، ليصبح رمزًا لانهيار الثقة في صناعة العملات الرقمية وضرورة الرقابة الصارمة.
تريفور ميلتون
تريفور ميلتون أسس شركة Nikola لتطوير شاحنات كهربائية تعمل بالهيدروجين. في ديسمبر 2023، أُدين بالاحتيال بعد تقديم بيانات مضللة للمستثمرين حول قدرات الشركة التكنولوجية.
استخدم ميلتون فيديوهات مضللة لتسويق الشاحنات، مما أدى لخسائر ضخمة .
الحكم قضى بسجنه 4 سنوات وغرامة مالية، بعد أن أظهرت التحقيقات أن التصريحات كانت مضللة وأدت إلى تضليل السوق.
5. جيرالد كوتن: QuadrigaCX وفقدان ملايين الدولارات
جيرالد كوتن، مؤسس بورصة QuadrigaCX الكندية، توفي فجأة في 2018، ليكتشف العملاء أن أموالهم محتجزة في محافظ رقمية لا يمكن الوصول إليها.
كشفت التحقيقات عن سوء إدارة وتحويل أموال العملاء لأغراض شخصية، ما أدى لخسارة حوالي 250 مليون دولار .
كوتن أسس شركته عام 2014 في أعقاب انهيار منصة MtGox اليابانية، التي خسرت آنذاك 850 ألف بيتكوين، ما أعطى شركته دفعة قوية لتصبح لاحقًا أكبر بورصة كندية للعملات الرقمية.
لكن في ديسمبر 2018، رحيله المفاجئ ترك نحو 115 ألف مستخدم يواجهون مصيرًا مجهولًا، مع ديون تقدّر بـ 250 مليون دولار
وتشير وثائق المحكمة إلى أن معظم تلك الأموال محبوسة داخل ما يُعرف بـ”المخزن البارد” – نظام أمني غير متصل بالإنترنت صممه كوتن للحماية من الاختراق، لكنه لم يترك وسيلة للوصول إليه بعد وفاته وفقا لـ “BBC”.
وفي ظل هذه الفوضى، علّقت المنصة جميع التداولات وحصلت على حماية مؤقتة من الإفلاس، بينما لا يزال عملاؤها في انتظار معرفة ما إذا كانت أموالهم ستعود إليهم أم ستظل “مدفونة إلى الأبد” مع مؤسسها الراحل.
القضية أثارت جدلاً حول أمان البورصات الرقمية، وأظهرت هشاشة عمليات التخزين الرقمية عندما يكون المؤسس الوحيد الذي يمتلك مفاتيح الوصول.
6. تشارلي جافيس: منصة Frank بين الريادة والاحتيال
كانت تشارلي جافيس رمزاً لنجاح الشباب في وادي السيليكون، بعد أن حصدت لقب “30 تحت 30” من مجلة فوربس وأسست عام 2016 منصة Frank، التي ساعدت آلاف الطلاب في تقديم طلبات المساعدات المالية بسهولة.
بفضل النمو السريع للمنصة، جذبت اهتمام المستثمرين الكبار، حتى استحوذ عليها بنك جي بي مورغان في سبتمبر 2021 مقابل 175 مليون دولار، معتقدًا أن الشركة خدمت أكثر من 5 ملايين طالب، وفقاً لصحيفة فاينانشيال تايمز.
لكن ما بدا إنجازاً باهراً سرعان ما انهار مع انكشاف واحدة من أكبر عمليات الاحتيال في عالم الشركات الناشئة.
التحقيقات كشفت أن جافيس تعمدت تضخيم أعداد المستخدمين بشكل هائل، إذ أنشأت أكثر من 4 ملايين هوية وهمية لإيهام البنك بضخامة قاعدة عملائها. في الواقع، لم يتجاوز عدد الطلاب الحقيقيين 300 ألف مستخدم فقط.
المحكمة الأمريكية أدانتها بثلاث تهم احتيال وتهمة تآمر، وأصدرت حكماً بسجنها 7 سنوات يوم الاثنين الماضي.
ورغم أن الادعاء طالب بعقوبة تصل إلى 12 سنة، رأى القاضي أن الحكم الحالي كافٍ، خاصة بعد خطاب اعتذار قدمته جافيس أعربت فيه عن ندمها ووعدت بالتعلم من أخطائها.
تسلط هذه الحالات الستة الضوء على هشاشة الثقة في الشركات الناشئة الرقمية والعملات المشفرة، وأهمية التنظيم والرقابة.
الابتكار وحده لا يكفي، وثقة المستثمرين المطلقة قد تتحول إلى كارثة مالية. على المجتمعات التقنية والمالية أن تتعلم من هذه الأمثلة لضمان الشفافية، حماية المستثمرين، وتجنب الوقوع في فخ الاحتيال الرقمي مستقبلًا.
البيان









