محليات

أزمة النفايات في دمشق.. خطر يتفاقم على الصحة والبيئة

في أحياء دمشق المكتظة، كما في بلدات ريفها، تحوّلت أكوام القمامة إلى مشهد يومي مألوف لا يثير استغراب المارة بقدر ما يثير قلقهم.

روائح كريهة تسبق العابرين عند زوايا الشوارع، فيما تنتشر الأكياس الممزقة على الأرصفة بعدما عبث بها “النباشون” بحثاً عن مواد قابلة للبيع. ومع ارتفاع درجات الحرارة، يتزايد الخوف من الحشرات وانتشار الجرذان التي وجدت في هذه الأكوام بيئة خصبة للتكاثر.

يقول صابر العبد الله، موظف يسكن في حي المزة، لـ”العربي الجديد”، إن “جمع القمامة لم يعد يحدث يومياً كما كان قبل سنوات، ننتظر أحياناً ثلاثة أو أربعة أيام حتى تمرّ الشاحنة.

وخلال هذه المدة تضطر العائلات لرمي أكياسها بجانب الحاويات الممتلئة، أو يلجأ البعض إلى حرقها”. الحرق هنا ليس حلاً، بل يزيد الطين بلّة، إذ يطلق دخاناً ساماً يفاقم مشاكل التنفس، خصوصاً لدى الأطفال وكبار السن.

وفي جرمانا بريف دمشق، تحاول وفاء القاسم أن تُبعد أبناءها عن أكوام القمامة المتكدسة على طرف الشارع قرب منزلها، لكنها تعترف بصعوبة ذلك.

تقول: “الرائحة لا تُحتمل، والذباب لا يفارق المكان. في كل مرة يمرض أحد أطفالي بالتهاب في المعدة أو بحساسية صدرية، أشعر أن القمامة هي السبب”.

وتضيف أن البلدية تمرّ لجمع النفايات “مرة أو مرتين في الأسبوع فقط”، وخلال الأيام الأخرى يضطر السكان للتخلص منها بالحرق، ما يجعل الجو خانقاً بالدخان.

الأزمة ليست محصورة في دمشق وحدها، بل تمتد إلى بلدات في الغوطة ووادي بردى، حيث يشكو السكان من نقص الحاويات أساساً، ما يدفعهم لتجميع القمامة في نقاط عشوائية أو رميها قرب المدارس والمحال. في جرمانا تحديداً، يتحدث الأهالي عن تفشٍ متجدد لمرض الليشمانيا، في ظل تراكم القمامة ومياه الصرف.

دمشق: صعوبة العمل

بدوره، قال مشرف مديريات الحدائق والنظافة ومعالجة النفايات الصلبة في دمشق، صبري عباس، إن عدد العاملين في المديرية يبلغ حالياً نحو 2500 موظف، من مهندسين ومشرفين ومراقبين وعمال،

موضحاً لـ”العربي الجديد” أن هذا الرقم غير كافٍ لتغطية احتياجات المدينة، نتيجة سوء تقدير العدد المطلوب في عهد الإدارة السابقة، التي لم تلتزم بالمعايير العالمية لعدد العمال قياساً بعدد السكان. وأضاف أن المديرية تعمل اليوم على إعادة تقييم الحاجة الفعلية لضمان تنفيذ المهام المطلوبة على أكمل وجه.

ويعتبر عباس أن تراكم النفايات في شوارع دمشق ناجم أيضاً عن غياب حملات التوعية وإشراك المجتمع في أعمال النظافة خلال السنوات الماضية، الأمر الذي انعكس على عدم انتظام أوقات رمي القمامة من قبل المواطنين، مشيراً إلى أن المحافظة بدأت مؤخراً تنفيذ حملات توعية لمعالجة هذه المشكلة.

وأوضح أن المديرية تجمع القمامة بشكل يومي وعلى مدار 24 ساعة، عبر ثلاث ورديات، حيث تُنقل النفايات من الحاويات إلى مكب مؤقت، ثم إلى المكب الدائم باستخدام ضواغط وآليات متخصصة، إلى جانب القيام بأعمال الكنس والشطف وحملات النظافة الدورية،

لكنه لفت إلى أن أسطول الآليات متهالك وانتهى عمره الافتراضي بسبب الإهمال في الصيانة، ما يستدعي استراتيجية جديدة لرفع جاهزيته وتجديده، خاصة في ظل طبيعة الأحياء القديمة والضيقة في العاصمة، مع اعتماد نظام محدد لتزويد الآليات بالمحروقات.

وأشار عباس إلى أن مديرية النظافة تسعى لوضع رؤية شاملة تجعل من دمشق مدينة نظيفة ضمن تصنيف عالمي، عبر نظام مبرمج وصديق للبيئة، يقوم على إشراك المجتمع في عمليات النظافة وفرز القمامة ومعالجتها، بما يحقق أثراً اجتماعياً واقتصادياً إيجابياً.

لكن صورةً أخرى يقدّمها العم إبراهيم المحمود، عامل نظافة سابق في دمشق، إذ ترك عمله قبل أشهر بعدما جرى تخفيض راتبه إلى النصف تقريباً. يقول الخمسيني لـ”العربي الجديد”: “الكثير من زملائي إما فُصلوا أو اضطروا للاستقالة للبحث عن مصدر رزق آخر”.

ويوضح أن عامل النظافة كان يتقاضى في السابق راتباً أساسياً يضاف إليه ما يُعرف بـ”طبيعة العمل”، وهي تعويضات خاصة نظراً لخطورة المهنة وصعوبتها، “لكن اليوم لم يعد هناك أي تعويضات إضافية، رغم أن هذه المهنة من أصعب المهن وأكثرها ضرراً على الصحة”.

ويضيف: “كنا نعمل لساعات طويلة وسط القمامة والروائح الكريهة، ونتعرض دائماً لإصابات في الظهر والأطراف بسبب رفع الحاويات الثقيلة. كثير من العمال أصيبوا بأمراض تنفسية وجلدية، ومع ذلك لم يحصلوا إلا على رواتب بالكاد تكفي للمعيشة”. ويؤكد أن غياب الحوافز والتقدير كان السبب الرئيسي وراء فقدان معظم الكوادر القديمة التي تمتلك خبرة طويلة في هذا المجال.

مخاطر صحية 

بدوره، يرى الباحث في الشؤون المحلية، خالد درويش، أن التعامل مع ملف النفايات يجري بعقلية “ترقيعية” لا أكثر، إذ يقتصر الإنفاق الحكومي على رواتب زهيدة للعمال وتزويد محدود للآليات بالمازوت، من دون استثمار حقيقي في بنية تحتية مستدامة.

ويوضح لـ”العربي الجديد”: “دمشق تنتج يومياً أكثر من ثلاثة آلاف طن من القمامة، وهذه الكمية تحتاج إلى أسطول حديث من الشاحنات والمكابس. لكن معظم الآليات متهالكة، وأي عطل فيها يترك أحياء كاملة بلا خدمة لأيام. المفارقة أن كلفة إصلاح آلية واحدة أو شراء أخرى جديدة تبقى أقل بكثير من كلفة مكافحة أوبئة أو أمراض يتسبب بها تراكم النفايات”.

ويضيف: “أي خلل في جمع القمامة لا يوفّر المال كما يظن البعض، بل يضاعف الفاتورة على الدولة والمواطن معاً، عبر علاج الأمراض، ورش المبيدات، وتعويض الخسائر التجارية الناتجة عن هروب الزبائن من الأسواق الملوثة”.

ويشير إلى أن غياب مشاريع الفرز والتدوير يحرم دمشق من مصدر دخل محتمل، كان يمكن أن يخفف الأعباء عن الخزينة ويوفر فرص عمل جديدة، بدلاً من أن تتحول القمامة إلى أزمة متكررة تهدد الصحة والاقتصاد في آن واحد.

وفي سياق متصل، يرى الدكتور نبيل شحادة، طبيب أمراض صدرية في دمشق، أن أزمة النفايات لم تعد مشكلة خدمية فقط، بل تحولت إلى تهديد مباشر للصحة العامة والبيئة على حد سواء. يقول لـ”العربي الجديد”: “في الأشهر الأخيرة ارتفعت لدينا حالات التهاب القصبات والحساسية بشكل ملحوظ، خصوصاً بين الأطفال وكبار السن،

والسبب المباشر هو استنشاق الغبار والدخان الناتج عن حرق القمامة في الشوارع. كذلك تسجل المراكز الصحية تزايداً في حالات الليشمانيا، نتيجة تكاثر الحشرات في بيئة غير نظيفة، وهذا مؤشر خطير على أن تراكم النفايات بدأ يتحول إلى بؤرة وبائية”.

ويحذر شحادة من أن المشكلة تتجاوز حدود الصحة الفردية لتطاول البيئة والمياه والزراعة أيضاً، موضحاً أن “المكبات العشوائية والقديمة مثل مكب الغزلانية تهدد بتسرب العصارة السامة إلى المياه الجوفية، ما يشكل خطراً طويل الأمد على مياه الشرب والأراضي الزراعية في محيط دمشق”.

ويضيف: “أي تأخير في معالجة هذا الملف يعني مضاعفة الكلفة مستقبلاً، سواء في علاج الأمراض أو في إصلاح الأضرار البيئية. الحل لا يكمن فقط بزيادة عدد الشاحنات والعمال، بل في تبني سياسة واضحة للفرز والتدوير، وإشراك المجتمع المحلي في إدارة النفايات ضمن رؤية مستدامة”.

أزمة النفايات في دمشق وريفها لم تعد مجرد مشكلة خدمية، بل تحوّلت إلى قضية بيئية وصحية واقتصادية في آن واحد، تعكس تردي البنية التحتية والإدارة المحلية، وتفتح الباب أمام مخاطر أوسع تهدد حياة السكان ومستقبل المدينة.

العربي الجديد- نور ملحم

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى