
كان نهر بردى مصدراً للتنزه لسكان مدينة دمشق في فترات الصيف، فقد كانت ضفاف النهر مقصداً للسكان وتغنيهم عن التنزه خارج العاصمة.
يبين ربيع متوج- صاحب مطعم صغير في الربوة- خلال حديثه لصحيفة الثورة أن منطقة الربوة من أكثر المناطق القريبة من العاصمة شهرة على نهر بردى، إذ تتواجد فيها العديد من المطاعم والمقاهي والحدائق التي تطل على النهر، مما يجعلها مكاناً مثالياً للاستمتاع بجمال الطبيعة والمياه.
مصدر إزعاج لا استقطاب
لكن اليوم- يضيف متحسراً- تغيرت الصورة وبدأ المصطافون والمتنزهون الذين كانوا يعدون بالآلاف في مثل هذا الوقت من العام بتغيير وجهتهتم إلى مناطق أخرى، فتلوث نهر بردى حرمهم متعة التنزه والاستمتاع بجمال الطبيعة ومذاق الأكل الدمشقي الشهي الذي كان يقدم في مطاعم الربوة.
مضيفاً: قبل عقد من الزمن كانت أطراف مجرى نهر بردى مكاناً للتنزه والسياحة لسكان مدينة دمشق وزوارها، وكانت تنتشر المطاعم والمنشآت السياحية على ضفافه، من عين الفيجة وصولاً إلى الغوطة الشرقية، ولكن الرائحة الكريهة هذه الأيام، حوّلت النهر إلى مصدر إزعاج لا استقطاب.
ويؤكد نبيل البزرة- صاحب أحد المقاهي الموجودة في الربوة، أن عدداً من الفعاليات السياحية في منطقة الربوة قد أغلقت أبوابها بالفعل نتيجة لازدياد جريان المياه الآسنة في مجرى نهر بردى مطلقة روائح منفرة، ولم تعد مقبولة على الإطلاق خاصة في فترات المساء الوقت المثالي لارتياد تلك الأماكن السياحية الجميلة.
نشر الأمراض الجلدية
فيما تؤكد بهيجة الهبري، أنها قررت بيع منزلها بسعر أرخص مما يستحق، بسبب رائحة النهر الكريهة، وبالأخص أثناء ارتفاع الحرارة في فصل الصيف، وتصل حداً لا يطاق، خصوصاً عند هبوب نسمات الهواء، منوهة بأن الوضع بات لا يطاق، عدا عن انتشار الحشرات وعدم تمكن السكان في المنطقة من النوم ليلاً نتيجة انتشارها الكثيف، حتى أن الكثير من الأطفال، ولاسيما منهم الرضع أصيبوا بأمراض جلدية نتيجة لسعات تلك الحشرات، مثل حبة اللاشمانيا.
أحد الأطباء الذين التقيناهم في المنطقة، الدكتور جميل برو أكد أنه منذ بداية عام 2015، بدأ انتشار الأمراض الجلدية في المناطق التي تجاور مجرى نهر بردى، مثل الربوة، ودمر، وقُدسيا، بسبب الرائحة الكريهة التي تنبعث من النهر، إضافة إلى نفايات المطاعم التي تقع على ضفاف النهر،
مشيراً إلى أن أبرز الأمراض الجلدية المنتشرة هي حبة اللاشمانيا، فقد انتشرت على وجوه الأطفال، وكل عام في فصل الصيف تزداد أعداد الإصابات في منطقة الربوة تحديداً كونها تلوث النهر يبلغ ذروته لدى مروره فيها، من دون معالجة جدية لوضع النهر من قبل الجهات المعنية.
الفساد أوقف المعالجة
مصدر في محافظة دمشق أشار لصحيفة الثورة إلى أن 14 مليار ليرة، وقبلها بسنوات مبلغ 4 مليارات لإزالة الأنقاض والنفايات التي تغلق مجرى النهر وفروعه السبعة، لكن أذرع الفساد في عهد النظام المخلوع ابتلعت تلك الأموال وبقي المشروع متوقفاً،
مضيفاً: إنّ تأخّر عملية إنشاء خط صرف صحي جديد بديل عن الخطوط القديمة المتهالكة هو أحد أسباب تلوث المجرى، لأن انسداد العديد من خطوط الصرف الصحي، دفع إلى استخدام بعض فروع نهر بردى كمجارٍ في الوقت الحالي، مؤكداً أن رسم خطوط صرف صحي جديدة دون الاستغناء عن الخطوط القديمة، يحتاج وقتاً، لكي نصل إلى خارطة نسير عليها.
صرخة حقيقية
نعم، عبارة “نهر بردى يستغيث” لم تعد مجرد عنوان صحفي أو شعار بيئي، بل هي صرخة حقيقية تعبّر عن معاناة هذا النهر العريق الذي كان يوماً رمزاً للجمال والحياة والازدهار، وأصبح اليوم ضحية للإهمال، والتلوث، والجفاف الموسمي، والتعديات البشرية،
كان يُقال عنه: إنه “يهب الحياة لدمشق كما النيل لمصر”، وكان من أصفى الأنهار، لكن النهر تحول في كثير من مناطقه إلى مجرى ملوث بمياه الصرف الصحي، والقمامة، والمخلفات الصناعية والزراعية فبات نهراً لا حياة فيه.. وتلوثه الشديد أدى لنفوق الكائنات الحية مع غياب كامل للأسماك والطيور والنباتات المائية، إضافة لتراجع الغطاء النباتي بشكل غير مسبوق.
ومن التقصير الحكومي في عهد النظام المخلوع لاستكمال مشاريع المعالجة مروراً باللامبالاة المجتمعية في الحفاظ على مجراه، وصولاً لعمران العشوائي الذي اقترب من مجراه، وهدد مصادره نهر بردى على مفترق طرق، فإما أن نسرع في إنقاذه أو نخسره كنهر حي للأبد.
الحلول ليس مستحيلة
الخبير البيئي المهندس خالد حسن بين أن حملات تنظيف مجرى النهر الدورية وتلك الحملات التي يطلقها الناشطون البيئيون بين الفينة والأخرى غير مجدية على الإطلاق، فالواقع المزري الذي أصبح نهر بردى عليه ينعكس على دمشق بأكملها، والتلوث يصيب كل ما يجاوره وهو يقطع العاصمة من غربها لشرقها.
وحسب المهندس حسن، فإن الحلول ليست بالمستحيلة وهي متوفرة، وممكن تنفيذها خلال مدة وجيزة إذا ما توفرت الإرادة الحقيقية والمتابعة الجادة من قبل الجهات المعنية في محافظتي دمشق وريف دمشق، وأولها ضرورة الإسراع في استكمال مشاريع المعالجة وشبكات الصرف الصحي،
ومنع المصبات المباشرة للمخلفات وفرض قوانين وإجراءات صارمة بحق المخالفين لها، إضافة لإعادة تشجير ضفاف النهر وتنظيم البناء وإعادة عن حرم النهر وإشراك الجامعات والمدارس والمؤسسات والجمعيات الأهلية في حماية النهر توعوياً وميدانياً من خلال تنظيم فعاليات بيئية ومسيرات تطوعية لتنظيف مجراه دورياً.
خلاصة الحكاية
نهر بردى اليوم يعاني من تلوث بيئي خطير، وصل لمرحلة الانحطاط البيئي لما كان يوماً مجرى تاريخياً وجمالياً لأقدم عاصمة مأهولة في التاريخ.
محافظتا دمشق وريف دمشق اليوم أمام مسؤولية مجتمعية وتاريخية اتجاه هذا النهر الأيقونة.. فالأمر يتطلب تدخلاً عاجلاً متعدد المحاور لضمان إعادة تأهيل بيئي حقيقي للنهر، بدءاً من استكمال مشاريع معالجة الصرف مروراً بتنظيم رمي المخلفات، وصولاً لتعزيز التوعية المجتمعية.
الثورة – ثورة زينية