يكشف خروج أكثر من 200 مليار دولار من سوريا عن تحوّل اقتصادي عميق نقل الرساميل والإنتاج إلى الخارج، وأضعف فرص الإعمار والعودة.
قبل عامَين، زار تاجر عقارات سوريّ القاهرة بنيّة استثمار مدخراته في مطعم أو مقهى صغير، ليعود بعد أسبوعين من دون نتيجة؛ إذ يقول: «لقد تأخّرت. معظم مَن أعرفهم من أصحاب المطاعم والمنشآت السياحية، افتتحوا فروعهم في مصر، خصوصاً في المناطق التي يتركّز فيها السوريون».
ثم يضيف: «يبدو أن اقتصاد سوريا انتقل إلى الخارج». على أن عبارته تلك تختصر مسار عقدٍ ونصف عقد من حربٍ لم تقتصر تداعياتها (الاقتصادية) على هروب الرساميل الكبرى، بل شملت أيضاً الاستثمارات المتوسطة والصغيرة.
وتُظهر الإحصاءات الصادرة عن غرف التجارة والصناعة في كلّ من تركيا ومصر والأردن، أن السوريين أسّسوا آلاف الشركات الصغيرة والمتوسطة في هذه البلدان، خلال سنوات الحرب.
ووفقاً لبيانات «اتحاد الغرف والبورصات التركية»، تصدّر السوريون قائمة المستثمرين الأجانب بين عامَي 2016 و2017، كما أسّسوا في مصر، بحسب وزارة الاستثمار هناك، أكثر من 30 ألف منشأة صغيرة ومتوسطة في مختلف القطاعات، بين عامَي 2012 و2022.
وفي حين تعكس هذه الأرقام حجم الخسارة التي مُني بها الاقتصاد السوري من جهة، والمكاسب التي حقّقتها اقتصادات الدول المستقبِلة من جهة أخرى، فإن خروج رؤوس الأموال لم يكن مجرّد نتيجة عَرضية للحرب، بل تَحوّل إلى عملية إعادة توطين اقتصادية شاملة، أسهمت في تكوين «اقتصاد سوري خارجي» مستقرّ نسبياً، في مقابل اقتصاد داخلي متداعٍ ومحاصَر.
مليارات الدولارات
حتى قبيل اندلاع الأزمة في عام 2011، كانت تقديرات غير رسمية تتحدّث عن أن حجم رؤوس الأموال السورية المستثمَرة في الخارج، يراوح بين 60 و100 مليار دولار. ورغم الجهود الحكومية، في حينه، لاستقطاب استثمارات المغتربين، عبر «هيئة الاستثمار السورية» و«اتحادات رجال الأعمال في الاغتراب»، ظلّت النتائج محدودة جداً.
وتشير بيانات صادرة عن وزارة السياحة عام 2010، إلى أن استثمارات المغتربين في القطاع السياحي لم تتجاوز ثلاثة مليارات ليرة سورية، أي نحو 1% فقط من إجمالي الاستثمارات السياحية الموضوعة قيد التنفيذ آنذاك.
كما يُظهر «مسح الاستثمار الأجنبي المباشر» الذي أُجري في العام ذاته، أن مساهمة المستثمرين السوريين المقيمين في الخارج، لم تتعدَّ الـ2.2% من إجمالي الرصيد الاستثماري الأجنبي في البلاد، باستثناء قطاع العقارات الذي لم يشمله المسح.
ومع وقوع الحرب، لم تستغرق رؤوس الأموال الكبيرة سوى أسابيع قليلة للبحث عن مخرج آمن، لتلتحق بها الشرائح المتوسطة من الصناعيين والتجار والحرفيين، وحتى الأفراد الذين باعوا ممتلكاتهم لتحويل قيمتها إلى مشاريع صغيرة في الخارج تؤمّن لهم ولأُسرهم مورداً للعيش.
وتبيّن تقديرات بعض خبراء الاقتصاد، أن حجم الأموال التي خرجت من سوريا، يراوح بين 100 و150 مليار دولار، تشمل رؤوس الأموال الإنتاجية والتجارية، والمدخرات الفردية، وحتى ما يُعرف بالأموال «الوسخة» الناتجة من أنشطة غير مشروعة ازدهرت خلال فترة الحرب.
وبلغت التحويلات المالية الواردة إلى سوريا خلال الحرب نحو 35 مليار دولار، بمعدّل مليارَي و500 مليون دولار سنويّاً، تُضاف إلى الاحتياطات النقدية التي كانت تقارب الـ20 مليار دولار عام 2011.
وبذلك، يصل مجموع الكتلة النقدية التي غادرت النظام المالي السوري، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى نحو 55 مليار دولار.
ومع احتساب الأموال الخاصّة غير المصرفية، والتدفّقات الرأسمالية غير المعلَنة، ترتفع تقديرات إجمالي رأس المال التراكمي الموجود في الخارج، إلى أكثر من 200 مليار دولار، أي ما يعادل أكثر من 10 أضعاف الناتج المحلّي الإجمالي السوري الحالي بالأسعار الجارية.
البيئة الآمنة في الخارج
توزّعت تلك الأموال – أيّاً كان حجمها الحقيقي – على دول عدّة، أبرزها تركيا ومصر ولبنان والأردن والإمارات؛ ففي تركيا، تركّزت في قطاعات النسيج والتجارة والخدمات الغذائية، بينما اتّجهت في مصر نحو المطاعم والصناعات الخفيفة والعقارات.
أمّا في الخليج، فكان أن تموضعت بشكل أساسي في العقارات والأعمال الريعية والخدمات المالية. لكن لبنان مثّل حالة خاصة: بيئة مالية سهلة لكن غير آمنة، تضرّرت فيها الأموال السورية بفعل الانهيار المصرفي عام 2019.
وفي بقيّة الدول، استقرّت تلك الأموال في بيئات استثمارية أكثر استقراراً، استفادت من تشريعات جاذبة، ومن مرونة البنية التحتية.
ووفق تقرير نشرته مؤسسة «Arab Investment Monitor»، عام 2023، فإن السوريين يُعدّون ضمن أكبر عشر جاليات مستثمرة في المنطقة العربية من حيث عدد المشاريع المسجَّلة، رغم غياب الدعم الرسمي من دولتهم الأم.
بذلك، لا تعود احتمالات عودة تلك الأموال كبيرة؛ فالمستثمر الذي وجد في القاهرة أو إسطنبول أو دبي أو غيرها، بيئة مستقرّة، لن يغامر بإعادة أمواله إلى بلد لا يزال يعيش مرحلة إعادة تشكيل سياسي، أمني، واقتصادي غير محسومة بفعل المخاطر والتهديدات القائمة.
العودة… والبديل الواقعي
رغم ذلك، شهدت الأشهر الأخيرة توقيع عدد من رجال الأعمال السوريين المقيمين في الخارج مذكّرات تفاهم مع الحكومة الانتقالية في دمشق، لتنفيذ مشاريع في مجالَي العقارات والبنى التحتية.
ما قدّم بعضهم تبرعات نقدّية لمناطقهم، في خطوة ذات طابع إنساني وسياسي أكثر من كونها اقتصادية. فهذه المبادرات لا تعكس تحوّلاً استثماريّاً فعليّاً، بقدْر ما تمثّل إشارة «حسن نيّة» تجاه السلطة الجديدة، وهي، بحسب ما قاله علناً بعض رجال الأعمال المقيمين في الخارج، «لن تتطوّر إلى استثمارات حقيقية وكبيرة، ما لم تتحقَّق بيئة أعمال مستقرّة وآمنة».
ولا شكّ في أن التحدّي الحقيقي أمام الحكومة الانتقالية، ليس إعادة الأموال التي خرجت خلال الحرب، بل بناء بيئة جديدة قادرة على جذب استثمارات سورية وأجنبية معاً. فحين خرجت رؤوس الأموال من البلاد، لم تخرج غالباً لأنها كانت معارضة أو موالية،
كما إنها لم تكن تُقيم وزناً لهوية النظام السياسي في الدولة التي استقرّت فيها، بل كانت تبحث عن وضوح القوانين واستقرار السوق، وإلّا لكانت غادرت مصر بعد سقوط حكم «الإخوان المسلمين» عام 2013، أو الإمارات بعد تحسّن علاقاتها مع النظام السابق.
الفرص الضائعة والمستقبل الممكن
لم تكن الخسارة السورية محصورة في الأموال وحدها، بل في الفرص التنموية التي تولّدت عنها في الخارج؛ فالمشاريع السورية في مصر وتركيا، مثلاً، وفّرت مئات آلاف فرص العمل، وأسهمت في نقل مهارات فنية وصناعية تراكمت في سوريا لعقود.
وهذه الطاقات التي ازدهرت في المنافي الاقتصادية، تحوّلت إلى قاعدة إنتاجية إقليمية موازية، يمكن النظر إليها اليوم كـ«اقتصاد سوري خارجي» متكامل الأركان.
وبقدْر ما تمثّل هذه الظاهرة خسارة وطنية، فإنها أيضاً رصيد يمكن استثماره مستقبلاً؛ إذ إن كثيراً من رجال الأعمال الذين أسّسوا نشاطهم في الخارج ما يزالون يحتفظون بصلات وثيقة بسوريا، وينتظرون لحظة استقرار حقيقية لإعادة النظر في تموضعهم.
غير أن ذلك لن يتحقّق إلّا إذا أثبتت الحكومة الانتقالية قدرتها على تقديم نموذج اقتصادي جديد، شفاف، وبعيد من البيروقراطية والمحسوبيات والفساد التي طاردت رؤوس الأموال لسنوات طويلة.
صحيفة الأخبار
