خلّفت سنوات القصف والتهجير في ريف إدلب الجنوبي دماراً واسعاً طال المساكن والبنى التحتية والمرافق الحيوية،
فالمشهد العام في معظم بلدات المنطقة لا يزال يظهر الانهيار الكامل: طرق مدمرة، وشبكات خدمات خارج نطاق العمل، وأحياء لم تستعد حتى الآن الحد الأدنى من مقومات الحياة.
وتؤكد شهادات مجالس محلية وناشطين وسكان عادوا إلى قراهم أن عودة الأهالي ما تزال متعثرة نتيجة غياب الخدمات الأساسية وتراجع فرص العمل، إلى جانب بطء عمليات الإغاثة وانعدام مشاريع الإعمار،
وفي ظل الواقع القاسي في المخيمات والبلدات المدمرة غير المؤهلة للسكن، يجد مئات آلاف السكان أنفسهم عالقين في وضع إنساني يرسخ توصيف المنطقة بأنها منكوبة بكل المقاييس.
ووفق بيانات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، كان أكثر من 3.4 مليون نازح داخلي يقيمون في الشمال السوري حتى كانون الثاني الماضي، بينهم نحو 1.95 مليون شخص موزعين على ما يقارب 1500 مخيم وموقع نزوح في محافظتي إدلب وحلب.
ويؤكد رضوان الأطرش، المكلف بملف الإدارة المحلية في المحافظة، أن حجم الدمار “يتجاوز حدود ريف إدلب الجنوبي ليشمل أجزاء واسعة من المحافظة، بما فيها المدن الرئيسية”،
مشيراً إلى أن نسب الأضرار الأعلى تتركز في خان شيخون ومعرة النعمان وسراقب، مشبهاً ما حدث بـ”زلزال ضرب المنطقة”، وسط غياب لجان متخصصة يمكنها تحديد نسب دقيقة للخسائر.
ويضيف الأطرش أن جزءاً كبيراً من الأهالي ما يزال في المخيمات، فيما عاد آخرون إلى منازل متضررة اكتفوا بترميمات بسيطة أو بخيمة مؤقتة، في ظل غياب الخدمات الأساسية وتراجع فرص العمل وضعف المنظومة التعليمية.
انهيار اقتصادي وفقدان مصادر الرزق
بحسب الأطرش، تمثّل الأزمة الاقتصادية العائق الأكبر أمام عودة الاستقرار إلى منطقة تعتمد أساساً على الزراعة، فالجفاف، وإهمال الأراضي خلال فترات النزوح، وارتفاع تكاليف البذار والمستلزمات الزراعية، جعلت إعادة استثمار الأراضي مهمة شديدة التعقيد.
ويعبر عن هذا الواقع المزارع محمد خطاب، الذي نزح من ريف معرة النعمان خلال الحملة العسكرية التي شنها النظام المخلوع بين عامي 2019 و2020، قائلاً: “عدت لأتفقد أرزاقي فلم أتعرف إليها، فالأشجار مقطوعة، والبيت بلا سقف، وحتى لو أردت البدء من جديد، لا أملك القدرة المالية لذلك، ولا توجد جهة تقدم دعماً حقيقياً للعائدين، وما زلنا نعيش في المخيم بانتظار فرصة لإعادة بناء حياتنا”.
ويشير الأطرش إلى أن المشاريع الاقتصادية في الجنوب “فردية ومحدودة”، في ظل غياب برامج استثمارية قادرة على توفير فرص عمل، بينما ما تزال شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء متضررة على نحو يمنع تشغيل الخدمات.
بلدات مشلولة.. كفر عويد أنموذجاً
يختصر رئيس مجلس بلدة كفرعويد، فرج أحمد مغلاج، واقع بلدته بوجود غياب شبه كامل للخدمات الأساسية، ما يجعل عودة الأهالي مهمة شديدة الصعوبة،
ويؤكد أن البلدة تفتقر لأي مشاريع إعمار، بالتوازي مع تراجع دور المنظمات الإنسانية، فيما طال الدمار شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي والطرقات على نحو واسع.
ويضيف أن المجلس المحلي عاجز عن أداء مهامه الأساسية بسبب غياب الميزانية والموظفين والآليات والمقر الإداري، في وقت يفوق حجم العمل المطلوب قدرة الجهود التطوعية،
لافتاً إلى أن السكان تكبدوا خسائر اقتصادية كبيرة نتيجة ترك أراضيهم لفترات طويلة وارتفاع أسعار الأسمدة والبذار، فضلاً عن استمرار خطر الألغام ومخلّفات الحرب الذي يعرقل استعادة الحياة الزراعية.
من جهته، يصف الدكتور علي السلطان، عضو مجلس محافظة إدلب سابقاً، الوضع في معرة النعمان وريفها بأنه “تدمير مركب”، ناتج عن القصف والنهب المنظم الذي طال الأسقف والبلاط وخطوط الكهرباء وحتى الأشجار،
لتصل نسب الدمار إلى ما بين 60 و95 بالمئة بحسب البلدة، ويؤكد أن قرى مثل الغدفة ومعرشمشة ومعرتحرمة تعرضت لدمار شبه كامل.
غياب الخدمات الأساسية يؤخر عودة النازحين يشير السلطان إلى أن غياب المؤسسات الخدمية يمثل العائق الأكبر أمام عودة الأهالي، فلا توجد مستشفيات عاملة في محيط معرة النعمان، والمسافة إلى أقرب مركز طبي تتجاوز 65 كيلومتراً،
كما تعاني المدارس من ضعف القدرة الاستيعابية وغياب التجهيزات، ولا تتوفر مياه شرب منتظمة أو كهرباء بسبب تدمير الشبكات ونهبها.
ويؤكد أن الأنقاض ما تزال منتشرة بكثافة في معظم البلدات، فيما يبقى تدخل المنظمات الإنسانية أقل بكثير من حجم الاحتياج، مشيراً إلى خصوصية ريف إدلب الجنوبي حيث لا توجد مدينة قريبة مؤهلة لاستقبال السكان مؤقتاً، ما يزيد صعوبة إعادة الإعمار وعودة الحياة.
هذا الواقع ينعكس مباشرة على الأسر العائدة، حيث تقول سامية غنوم، وهي أم لثلاثة أطفال عادت إلى منزلها في أطراف سراقب: “رمم زوجي غرفة واحدة فقط، لا كهرباء ولا مياه، والمدرسة بعيدة وغير مجهزة، وحالياً نعيش بين خيار البقاء في المخيم أو العودة إلى منزل لا يوفر الحد الأدنى من الحياة”.
كما يعبّر المعلم أحمد الحسين عن أزمة التعليم قائلاً: “غياب المدارس الكافية وضعف الرواتب والمواد التعليمية يجعل استمرار العملية التعليمية شبه مستحيل، وبالتالي هناك جيل كامل مهدد بالانقطاع عن الدراسة”.
خلاصة القول، تتكامل الشهادات الرسمية والأهلية لرسم صورة لمنطقة مثقلة بالدمار، تعاني انهياراً واسعاً في البنى التحتية والخدمات الأساسية، وعودة محدودة للسكان، وسط تدخل ضعيف من قبل المنظمات الإنسانية وغياب مشاريع إعمار فعلية،
وفي ظل هذا الواقع، يبقى مئات آلاف النازحين عالقين بين خيارين قاسيين: البقاء في المخيمات أو العودة إلى بلدات مدمرة لا توفر الحد الأدنى من مقومات الحياة.
الثورة السورية – ناديا سعود
