
تحدد امتحانات الثانوية العامة “البكالوريا” في سوريا مستقبل مئات آلاف الطلاب، إذ تشكل بوابة العبور نحو الجامعة والحياة المهنية، غير أن تسريبات ما يعرف بـ” المواضيع المتوقعة” باتت تهدد قيمة الاجتهاد الحقيقي، وتثير جدلاً واسعاً في الوسطين التعليمي والاجتماعي حول ما إذا كانت “البكالوريا” قد تحولت إلى مجرد لعبة حظ..
موجة التوقعات
تتزايد موجة التوقعات التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وتلقى رواجاً كبيراً لدى الطلاب الذين يعيشون ضغطاً نفسياً هائلاً، وتتركز هذه التوقعات على المواد الأساسية، كالعربي والفلسفة والرياضيات والعلوم الطبيعية، فينقسم الرأي حولها بين من يعتبرها وسيلة تساعد على تنظيم جهود المراجعة وتركيزها، ومن يراها مصدر تشويش وإرباك قد يقود إلى نتائج عكسية إذا خابت.
ويطرح هذا المشهد تساؤلات مشروعة عن تأثير الظاهرة على مبدأ تكافؤ الفرص بين التلاميذ، وعلى مصداقية الامتحانات كأداة عادلة لتقييم الجهد والمعرفة..
“الثورة” استطلعت آراء بعض الطلبة والمعنيين في العملية التعليمية.
طموح تحطمه التوقعات
تروي إسراء، طالبة مجتهدة في الصف الثالث الثانوي العلمي، كيف بدأت حلمها الكبير بدراسة الطب، فاجتهدت طيلة العام، وانتظمت في دروس معهد خاص كلف عائلتها مبالغ طائلة، راجية أن تحصد ثمرة تعبها، لكن مع اقتراب الامتحانات، تسللت المخاوف إلى نفسها، حين أخذت صفحات التواصل وبعض الأساتذة يروجون لمحاور محددة بوصفها “الأكثر احتمالاً”.
تقول إسراء: في إحدى حصص الرياضيات، أشار الأستاذ إلى مسائل معينة، مؤكداً أنها مهمة للغاية، عندها اقتصرت مراجعاتي على ذلك المحور خوفاً من إضاعة الفرصة. وفي يوم الامتحان، فتحت ورقة الأسئلة فكانت الصدمة: المسألة ” المتوقعة ” لم تأت.
توضح: أصابني ارتباك شديد، وتجمد ذهني، قبل أن أستجمع شتات نفسي لأكمل ما استطعت. وعندما صدرت النتائج، لم يكن معدلها كافيا لدخول كلية الطب، فاختارت الزراعة على مضض، لتشعر أن حلمها انهار ليس بسبب قلة الدراسة، بل بسبب ثقة وضعتها في غير موضعها.
وتضيف إسراء بأسى: لو عاد بي الزمن، لما اعتمدت على التوقعات، وتعلمت أن الحظ لا يصنع النجاح.
تركيز مشتت
يقول أحد الأساتذة المخضرمين: “إن ظاهرة التوقعات أصبحت تستحوذ على تفكير الطلاب، وخصوصا في الأيام الأخيرة قبل الامتحان، ففي الفرع الأدبي، يعتمد كثيرون عليها في جميع المواد تقريبا، بينما يركز طلاب الفرع العلمي عليها في مواد الرياضيات والفيزياء والعلوم، وإن بدرجة أقل من زملائهم في الفرع الأدبي”.
وتؤكد مديرة معهد تعليمي في حي الأشرفية، أن اعتماد الطلاب على التوقعات يأخذ منهم وقتاً وجهداً على حساب دراسة شاملة، ويؤثر على استقرارهم النفسي، فتتكرر حالات الإغماء في قاعات الامتحان عند اكتشاف خطأ هذه التوقعات، بينما يبتهج آخرون حين ينجح “رهانهم”.
وتضيف: ما يزيد الأمر تعقيداً أن بعض التوقعات تصيب أحياناً، فتخلق وهماً أن هذه الطريقة مضمونة، فيتمادى الطالب أكثر في الارتهان لها.
وتلفت إلى أن التوقعات ليست وحدها ما يهدد مستوى الطلاب، بل أيضا عوامل أخرى مثل تسرب التلاميذ مبكراً من الدوام المدرسي وعدم توفر الكادر التعليمي الكافي، ما ساهم مجتمعة في تراجع المستوى الأكاديمي.
بيئة خصبة للتسريبات
ومن جهته، حذر الاختصاصي النفسي حيدر السلامة من الدور الخطير لمنصات التواصل الاجتماعي التي تحولت إلى ساحة لنشر تسريبات غير مؤكدة، موضحاً أن مجموعات “فيسبوك” و”واتساب”، تضخم حجم بعض المواضيع وتقدمها كأنها حتمية، ما يؤدي إلى اضطراب التوازن في مراجعة الطالب.
وأضاف: يتعامل الطلاب مع هذه الظاهرة بطرق مختلفة، فالمتفوقون غالباً ما يراجعون المنهاج كاملاً، بينما يعتبرها آخرون طوق نجاة أخير.
وبين أن بعض الطلاب المميزين يصابون بالحيرة حين يجدون زملاءهم يركزون على موضوعات قد تغيب عنهم، ما يولد ضغطا نفسياً كبيراً. ولفت السلامة إلى خطورة ظاهرة بيع التوقعات تحت غطاء “الدروس الخصوصية”، معتبراً إياها استغلالاً لمخاوف الطلاب وخرقاً لأخلاقيات التعليم.
الحاجة إلى التوعية
يجمع التربويون والاختصاصيون على أن الحد من ظاهرة التوقعات يحتاج إلى جهود مشتركة من وزارة التربية والتعليم، بإطلاق حملات توعية واسعة وتوجيه الأساتذة لمرافقة الطلاب نفسياً وتربوياً خلال فترة التحضير، لتذكيرهم أن النجاح ثمرة الاجتهاد المتوازن والثقة بالنفس، لا ضربة حظ عابرة.
الثورة – جهاد اصطيف