
أعاد رفع العقوبات الغربية والأميركية عن القطاع المصرفي السوري تموضع هذا القطاع في النظام المالي العالمي، بعد أكثر من 5 عقود من العزلة. وفتحت هذه الخطوة الباب أمام إعادة دمجه في شبكات الدفع والتسوية الدولية، وسط وعود حكومية بتحويله إلى محرك فعّال للنمو الاقتصادي والاستثمار.
عودة إلى النظام المالي العالمي
كشف محافظ مصرف سورية المركزي عبد القادر حصرية، في حديث لصحيفة فايننشال تايمز خلال يونيو/حزيران الماضي، عن خطة ثلاثية المحاور تهدف إلى:
- استعادة قنوات التحويل المالي.
- جذب الودائع الأجنبية.
- إعادة ربط النظام المصرفي بشبكات الدفع العالمية.
كما أشار حصرية إلى أهمية نظام “سويفت” العالمي للمدفوعات، الذي يسهم في تسهيل حركة الصادرات، وخفض تكاليف الاستيراد، وتعزيز جهود مكافحة غسل الأموال، مما يسهم في دعم مكانة البلاد كمركز مالي محتمل.
وأوضح أن الخطط الحكومية تشمل كذلك تعزيز معايير كفاية رأس المال، وتحسين الحوكمة، وتوجيه التمويل نحو المشاريع الإنتاجية، وتحويل المصارف من مؤسسات تستقبل الودائع إلى جهات نشطة في الإقراض والاستثمار.
لكن خبراء اقتصاديين يرون أن نجاح هذه الخطط مرهون بقدرة النظام المصرفي على تبنّي هيكلة جديدة، ويشير هؤلاء إلى ضرورة تحديث الأطر التنظيمية، وتطوير البنية التحتية الرقمية، وتنويع المنتجات المالية، وضمان الامتثال للمعايير الدولية.
ويقول إبراهيم قوشجي، أستاذ الاقتصاد الكلي والمصارف في الجامعة الوطنية السورية، في حديث للجزيرة نت، إن أي إصلاح جدي للقطاع المصرفي يتطلب مقاربة شاملة تتجاوز الحلول الجزئية، مع إعادة تعريف للوظيفة المصرفية بما يتناسب مع متطلبات التنمية والاستقرار النقدي.
ويضيف أن المصارف الحكومية كانت تُستخدم في العقود السابقة كأدوات لتمويل مشاريع ذات جدوى اقتصادية متدنية، غالبًا ما كانت تُخصص لفئات ذات نفوذ سياسي أو إداري، مما انعكس سلبًا على كفاءة تخصيص الموارد.
ويشير قوشجي إلى أن ارتفاع نسب القروض المتعثرة، وضعف كفاءة رأس المال، وتراجع ثقة الجمهور، كلها عوامل أدت إلى انخفاض فعالية النظام المالي في تمويل الأنشطة الإنتاجية.
ويوضح أن التدخل السياسي في عمل المصرف المركزي خلال العقود الماضية، ولا سيما من قبل النظام السابق، أسهم في تقويض استقلاله، ومنعه من اتباع سياسات نقدية قائمة على اعتبارات اقتصادية موضوعية.
ويؤكد أن دراسات تطبيقية عديدة أظهرت ضعف تفاعل السياسة النقدية مع مؤشرات مثل الناتج المحلي الإجمالي ومعدلات التضخم، بالإضافة إلى عدم التزام سوريا التام بمعايير “فاتف” الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، مما أسهم في تقويض ثقة المجتمع الدولي.
فجوة رقمية ومعايير متراجعة
وعانى القطاع المصرفي السوري، حتى قبل اندلاع الحرب، من مشاكل بنيوية عميقة على المستويين التنظيمي والمؤسساتي.
ففي دراسة أجراها بنك الاستثمار الأوروبي عام 2006 بالتعاون مع جهات حكومية سورية، تم وصف القطاع المصرفي بأنه “ضعيف نسبيًا”، نتيجة عجزه عن تلبية احتياجات القطاع الخاص من الخدمات المالية، ومحدودية تنوع المنتجات، ورداءة الجودة، وانخفاض مستوى الاعتمادية.
وأشارت الدراسة إلى ضعف في إدارة المخاطر، وقصور في نظم المعلومات والمحاسبة، وعدم توافر معايير مصرفية دولية في تأهيل العاملين.
ويقول الخبير في تكنولوجيا المعلومات المصرفية رشيد البني، في حديث للجزيرة نت، إن افتقار القطاع لنظام معلومات رقمي متكامل جعل منتجاته محدودة ومتشابهة، وأفقده القدرة على الابتكار أو المنافسة.
ويضيف أن الاستثمار في التكنولوجيا الرقمية لا يستهدف فقط استقطاب عملاء جدد، بل خلق بيئة مصرفية تنافسية تحفّز الابتكار وتحسن جودة الخدمات.
ويتابع البني أن غياب منظومة إلكترونية متكاملة تحلل احتياجات العملاء بشكل آلي، دفع المصارف إلى الاكتفاء بمفاهيم تقليدية في خدمة الزبائن، مما أضعف مستوى المنتجات وفقًا للمقاييس الدولية.
المصارف الإسلامية تتقدم
ويضم القطاع المصرفي السوري 21 مصرفًا، منها 6 مصارف حكومية و9 مصارف خاصة تقليدية، إلى جانب 6 مصارف تعتمد أحكام الشريعة الإسلامية في تقديم خدماتها.
وسُمح بدخول المصارف الخاصة إلى السوق المحلية بعد عام 2004، في إطار التحول من الاقتصاد الموجّه إلى اقتصاد السوق، بعد احتكار حكومي دام نصف قرن.
إلا أن الحرب التي اندلعت في 2011 وتحوّل الاقتصاد إلى اقتصاد قائم على المحسوبية، حدّت من فاعلية القطاع الخاص رغم مرونته النسبية، وفق خبراء.
وفي هذا الإطار، يشير الباحث إبراهيم قوشجي إلى أن الفترة بين عامي 2023 و2024 شهدت تحولًا لافتًا في بنية القطاع المصرفي، حيث صعدت المصارف الإسلامية لتتصدر المشهد المالي، في ظل تراجع أداء المصارف التقليدية.
وأظهرت بيانات رسمية أن:
- ودائع المصارف التقليدية انخفضت بنسبة 37%، في حين زاد الطلب على أدوات التمويل الإسلامي، وخاصة المرابحة.
- الإيرادات الإجمالية للقطاع المصرفي بلغت نحو 27.1 تريليون ليرة، استحوذت المصارف الإسلامية على 93% منها، مقابل 7% فقط للمصارف التقليدية، ويعادل الدولار نحو 10.2 آلاف ليرة.
- أصول المصارف الإسلامية من 18.2 إلى 25 تريليون ليرة بين عامي 2023 و2024، بنسبة نمو 37%، في حين حققت المصارف التقليدية نموًا محدودًا بلغ 23%، وفقًا لقوشجي.
- أرباح المصارف الإسلامية قفزت من 1.8 إلى 25.1 تريليون ليرة، أي بنسبة نمو بلغت 1241%، مقابل تراجعت إيرادات المصارف التقليدية من 7.5 إلى تريليوني ليرة، بانخفاض حاد نسبته 73%.
- المصارف الإسلامية استحوذت على 64% من إجمالي الأرباح بواقع 284.4 مليار ليرة، مقابل 157.6 مليار ليرة فقط للمصارف التقليدية (36%).
ويرى قوشجي أن هذا التقدم يعكس تزايد ثقة السوريين في المنتجات الإسلامية، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية المتدهورة، إضافة إلى مرونة أدوات التمويل الإسلامي وملاءمتها للقيم المجتمعية.
خارطة تمويل جديدة وصكوك إسلامية لأول مرة
وتسعى الحكومة السورية حاليًا إلى إعادة رسم خارطة التمويل من خلال إصلاحات قانونية وتنظيمية واسعة.
وأكد محافظ البنك المركزي أن المصرف بالتعاون مع وزارة المالية أعد خطة استقرار تستمر ما بين 6 و12 شهرًا، تشمل إصلاح المصرف المركزي، وتعديل القوانين المصرفية، وإطلاق برامج تمويل للإسكان، وتحديث الضمان الاجتماعي، وتحفيز استثمارات السوريين في الخارج.
وتتضمن الخطة تحديث اللوائح المصرفية لتشجيع أدوات التمويل الإسلامي، والإعلان عن إصدار أول صكوك إسلامية في سوريا، التي تُعد بديلًا للسندات التقليدية بما يتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية.
وتأمل الحكومة أن تسهم هذه الخطوات في بناء نظام مصرفي أكثر كفاءة واستقلالًا، قادر على دعم جهود الإعمار وجذب رؤوس الأموال من الخارج، مع تعزيز الشفافية وتحسين جودة البيانات، بما يتماشى مع المعايير الدولية.
المصدر: الجزيرة