تلقى أهالي المنطقة المحررة في شمال غرب سوريا بلاغات عدة، كفض التجمعات وإخلاء الطرق الواصلة إلى ريف حلب الغربي، استنفار منظومات الإنقاذ والطوارئ والكوادر الطبية، تعطيل الدوام في كل المؤسسات، إيذاناً ببدء معركة “ردع العدوان” فجر السابع والعشرين من تشرين الثاني 2024،
لتكون لحظة فارقة كسرت ميزان القوة في سوريا، الذي لم يطرأ عليه أي تغيير منذ اتفاق وقف إطلاق النار التركي–الروسي عام 2020، لتتحول المعركة خلال ساعاتها الأولى إلى حدث مفصلي غيّر خريطة السيطرة في البلاد، بتحرير الفوج 46 أحد أهم مواقع النظام البائد، وفتح الطريق نحو مدينة حلب.
بوابة الاختراق الأولى
لم يكن الهجوم المفاجئ من غرب حلب اختياراً عشوائياً، فريف حلب الغربي يشكّل عقدة جغرافية تربط بين إدلب وحلب، ويتيح قطع طرق الإمداد الحيوية للنظام البائد.
وشهد اليوم الأول تحرير 15 بلدة، بينها عنجارة وأورم الكبرى، وشكلت السيطرة على الفوج 46 اختراقاً استراتيجياً فتح الباب أمام التقدم نحو مدينة حلب.
الفوج 46 كان العقبة الأبرز في مسار العملية العسكرية في يومها الأول، فهو أحد النقاط الحاكمة والمتسلطة نارياً على كامل المنطقة المحيطة به، والعديد من العوامل كمساحته البالغة نحو 10 كيلومترات مربع وارتفاعه الذي يصل إلى 388 متراً
وتوزع الأسلحة المتوسطة والثقيلة وقاذفات الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى إلى جانب الصواريخ الموجهة المضادة للدروع، كانت تتطلب وضع خطة محكمة لاستغلال الثغرات الجغرافية الممكنة وفتح ثغرات في خطوط الدفاع عنه.
نقاط قوة وضربة قاصمة
دخلت إدارة العمليات العسكرية المعركة وهي تمتلك نقاط قوة لا يملكها النظام البائد، أهمها حسب الباحث والمحلل الأمني العميد أحمد حمادة، الروح المعنوية العالية والإيمان بالقضية،
حيث كان لإدارة العمليات العسكرية هدفاً سامياً وهو تحرير سوريا من نير عصابات الأسد المفسدة والفاسدة التي قتلت الشعب السوري في الكيماوي والفوسفوري وشتى أنواع الأسلحة، واستجلبت 62 ميليشيا إيرانية، إضافة إلى الطيران العسكري الروسي الذي فتك بالمناطق السورية.
ويوضح حمادة لموقع الإخبارية: “في المقابل، كان مقاتلو النظام البائد يفتقرون إلى الحافز، ويساقون إلى المعركة دون هدف واضح سوى النهب والسرقة، بينما يعتمد النظام البائد على الميليشيات الإيرانية والغطاء الجوي الذي كانت توفره القوات الروسية”.
وكانت السيطرة على الفوج 46 ضربة قاصمة للنظام البائد، إذ يمثل بوابة حلب وعقدة مواصلات تربط بين المدينة والريف الغربي وصولاً إلى إدلب ومعبر باب الهوى، وسقوطه حرم النظام من قوة نارية هائلة، وفتح الطريق أمام إدارة العمليات العسكرية للتقدم نحو خان العسل وعنجارة، كما لعب عامل المفاجأة دوراً حاسماً، إذ “من يكسب المفاجأة يكسب نصف المعركة”، كما يقول حمادة.
وأضاف الباحث والمحلل الأمني “استخدمت فصائل الثورة أسلحة جديدة مثل طائرات “الشاهين”، ونفذت عمليات خلف خطوط العدو، ما أربك النظام وأفقده القدرة على الدفاع،
ورغم أن النظام كان يمتلك أكثر من 35 ألف جندي في حلب، فإن ثلاثة آلاف مقاتل من إدارة العمليات العسكرية تمكنوا من السيطرة على المدينة خلال ثلاثة أيام فقط، إضافة الى ردع “قسد” التي حاولت السيطرة على المداخل الشرقية للمدينة حلب وخاصة مطار كويرس والمطار الدولي.
تكتيك خاطف وكومندوس ليلي
من زاوية أخرى، يرى الخبير العسكري والاستراتيجي العميد الركن مصطفى الفرحات، أن اختيار فصائل الثورة السورية غرب حلب كنقطة انطلاق عكس قراءة دقيقة لثغرات النظام، فريف حلب الغربي كان نقطة ضعف متراخية،
والنظام كان مطمئناً إلى أن فصائل الثورة لن تهاجم، إذ اعتاد أن يكون هو المبادر بالقصف اليومي، لذلك جاء الهجوم كصدمة أربكت قياداته وأحدث انهيارات سريعة في صفوفه.
خلال المعارك السابقة بين فصائل الثورة السورية كانت قوات النظام البائد تلجأ إلى الهجوم ليلاً بعد أنّ أضافوا أنظمة الرؤية الليلية إلى البنادق الحربية، القناصات، الرشاشات المتوسطة والثقيلة، الدبابات، وناقلات الجند، وذلك كله في ظل شح هذه التقنية لدى فصائل الثورة.
حلّ مساء اليوم الأول من المعركة حاملاً مفاجأة جديدة، إذ لم تتوقف العملية العسكرية على غرار المعارك السابقة، وكل القوات المشاركة واصلت تقدمها، إذ أخذت إدارة العمليات العسكرية حالة المعارك الليلية على مستوى عالٍ من الأهمية وزوّدت العتاد العسكري بأنظمة الرؤية الليلية، وهنا أصبحت معركة الند للند على مداخل مدينة حلب وتحديداً الكليات العسكرية وحلب الجديدة.
ويشير الفرحات في حديثه لموقع الإخبارية إلى أن الفصائل أعادت هيكلة وحداتها لتعمل كمجموعات اقتحام ليلية، أشبه بالكومندوس الليلي، ما سمح لها بالتسلل إلى العمق وتنفيذ هجمات منسقة أربكت النظام،
كما أن استخدام القتال الليلي كان عنصراً جديداً أربك الطيران الداعم للنظام، إذ تحولت المعركة إلى “معركة قريبة” وجهاً لوجه، ما حدّ من تأثير سياسة الأرض المحروقة التي كان يعتمدها النظام.
كسر العمود الفقري
ووفق العميد الركن مصطفى الفرحات، فإن سقوط الفوج 46، كان بمثابة هدم جزء من العمود الفقري الدفاعي للنظام، وتركت القوات المنسحبة كميات كبيرة من العتاد والأنظمة الدفاعية، ما عزز قوة المهاجمين وسرّع التقدم.
ويعتبر الفرحات أن نجاح إدارة العمليات العسكرية لم يكن ظرفياً بسبب غياب الإسناد الروسي، بل نتيجة تطور تكتيكي وتنظيمي حقيقي، ظهر في العمليات الليلية واستخدام الطائرات المسيّرة،
لكنه يشير إلى أن تحقيق مكاسب استراتيجية دائمة يتطلب بنية لوجستية مستدامة وقيادة مركزية فعالة، وهو ما تعمل عليه وزارة الدفاع اليوم في بناء جيش منظم بعقيدة دفاعية واضحة.
إعادة الأمل للسوريين
وفي قراءة سياسية للمعركة، يرى الباحث في مركز جسور للدراسات وائل علوان، أنها كانت مفاجأة كبرى أعادت الأمل للسوريين بعد إحباط طويل، حيث الشعب كان يعيش حالة يأس،
بينما الثوار كانوا يراقبون التغيرات الإقليمية والدولية ويستعدون للحظة المناسبة، مشيراً إلى أن قرار الهجوم كان سورياً خالصاً، هدفه ردع العدوان المستمر للنظام وحلفائه.
ويوضح علوان لموقع الإخبارية أن النظام البائد كان منهكاً بالفساد والانهيار المعنوي، بينما إيران وحزب الله اللبناني عاجزان عن تقديم الدعم، وروسيا المستنزفة في أوكرانيا لم تجد جدوى من تدخل واسع، وهذا الموقف الروسي لم يكن وليد اللحظة،
بل بدأ يتبلور منذ عام 2020، حين أدركت موسكو أن النظام البائد غير قادر على ضمان مصالحها في المنطقة، وتجسد الموقف الروسي بوضوح خلال المعركة، إذ اعتبرت روسيا أن الاستثمار في النظام أصبح عبئاً وخسارة.
تحرير حلب منطلق لتحرير سوريا
وحول موقف الدول الداعمة للثورة السورية وتلك الحليفة للنظام البائد من المعركة، يشرح علوان، أن الدول الحليفة للمعارضة كانت تخشى ردة الفعل الروسية والإيرانية والقصف الذي سينهال على إدلب وحجم المآسي البشرية،
وتدرك إجرام النظام وحلفائه واستهدافهم للمدنيين، ومع ذلك كان هناك قرار بأن تنطلق هذه المعركة وأن تتحرر حلب، لكي تكون بداية لتحرير سوريا.
وفي المقابل، كان حلفاء النظام البائد متفاجئين بشكل كبير، وحسب تقديرهم فإن هذا التحرك قد يكون محدوداً على جبهات حلب الغربية، ولم تكن إيران وروسيا تدركان أن الثوار يعدون العدة بشكل كبير وواسع وعينهم على حلب المدينة والمحافظة كاملة، حسب ما يراه علوان.
وأشار علوان إلى أن الثوار كانوا قد درسوا اللحظة والفرصة، وانطلقوا بشكل ذكي جداً على المستوى الجغرافي وعلى مستوى التوقيت، واستطاعوا أن يحددوا هدفاً واضحاً، لذلك كانت الفتوحات تتوالى في اليوم الأول والثاني والثالث من المعركة.
ويرى علوان أن المعركة أسهمت في إعادة مفهوم التحرير والوعي السياسي للسوريين، ورسمت الأمل من جديد، مشيراً إلى أن الثوار امتلكوا العزيمة أكثر من المدنيين الذين كانوا في حالة تعب شديد، لكن التحرير أعاد الحياة للشعب بأكمله.
الإخبارية
