العمارة الدمشقية في العصر العثماني.. إرث حضاري يواجه التحديات

تُعَدّ دمشق أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، مدينة تتنفس من ذاكرة معمارية متوارثة عبر العصور، شكّل فيها العصر العثماني (1516–1918) م أحد أبرز المحطات التي تجلت فيها العمارة الدمشقية، والتأثر بمثيلتها العثمانية، على صعيد العناصر المعمارية والزخرفة.

البيت الدمشقي في العصر العثماني… خصوصية واستدامة

توضح الدكتورة فرح عارف، الباحثة في نظريات وتاريخ العمارة لمراسل سانا، أن المساكن الدمشقية في العصر العثماني بُنيت وفق ضوابط اجتماعية ودينية تراعي الخصوصية، حيث يمثل الفناء الداخلي العنصر المحوري للبيت، بوصفه “الرئة” التي تمنح ساكنيه راحة بيئية ومجالاً للتلاقي العائلي، مع إبقاء الانفتاح موجهاً إلى الداخل حفاظاً على الحميمية.

وعكس تقسيم البيت الدمشقي، وفقاً لعارف، مدى تأثره بالعمارة العثمانية، فظهرت أقسام الحرملك والسلملك والخدملك، وهي كلمات باللغة التركية، وأشارت إلى أن هذا الطراز العمراني جعل البيت الدمشقي في تلك الفترة نموذجاً للاستدامة البيئية والاجتماعية معاً.

وتضيف عارف: إن هذه المفاهيم المحلية، سواء الاجتماعية أو البيئية أو المعمارية، تعرضت لاحقاً إلى الطمس والتشويه في ظل سياسات عمرانية مفروضة لا تتناسب مع الاحتياجات الحقيقية للسكان أو عاداتهم الاجتماعية، فظهرت مساكن تفتقر لشروط الاستدامة، وغابت المخططات المدروسة وفق معايير هندسية صحيحة.

وترى عارف أن المطلوب اليوم هو تضافر جهود المعماريين والآثاريين مع أصحاب المهن الدمشقية التقليدية، كفناني القيشاني والنقاشين على الخشب والحجر، لإعادة إحياء أصالة البيت الدمشقي بفنونه المختلفة، وإعادة بلورة الحاجات الاجتماعية التي طالما شكلت ضوابط ناظمة لحياة السكان.

إرث عثماني مهدد بالإهمال

يؤكد الباحث لطفي فؤاد لطفي في كتابه “التاريخ العمراني لدمشق خلال الحكم العثماني” أن العمارة الدمشقية في هذه المرحلة شكّلت وحدة تشكيلية متجانسة تعكس حضارة إنسانية عريقة.

بينما وجد محمود زين العابدين في مؤلفه “دمشق: البناء العمراني في العصر العثماني” أن هذا التناغم الطبقي والاجتماعي بدأ يختل في العقود الأخيرة نتيجة الإهمال والتغييرات غير المدروسة.

كما يشير مسلم سقا أميني في كتابه “البيوت الدمشقية الأثرية” إلى أن زخارف هذه البيوت وتفاصيلها الدقيقة فقدت كثيراً من قيمتها بسبب التعديلات العشوائية، بينما يلفت حسن زكي الصواف في كتابه “البيت الدمشقي.. كنز العمارة” إلى أن البيت الدمشقي ينبض بجماله من خلال الحجر الكلسي والخشب المنقوش والمياه الجارية، ما يجعل الحفاظ عليه ضرورة وجودية لا جمالية فحسب.

نحو سوريا جديدة تحفظ إرثها

وفي هذا الصدد نجدد الدعوة التي أطلقها الباحث الراحل عبد القادر الريحاوي قبل ثلاثين سنة في كتابه “جامع دمشق الأموي: التاريخ والتراث والفن المعماري” والتي طالب فيها بتنفيذ مشاريع الترميم بصورة علمية، بالتعاون مع جامعات وخبراء، وأن يراعى فيها استخدام المواد التقليدية وأصالة البناء.

ويجمع الباحثون على أن العمارة السكنية الدمشقية في العصر العثماني تمثل شهادة حية على عبقرية المكان والإنسان معاً، والحفاظ عليها اليوم لا يعني صون حجارة وزخارف فحسب، بل حماية هوية دمشق وذاكرتها الحية للأجيال القادمة، وجعلها ركيزة أساسية في نهضة سوريا الجديدة بعد الثورة.

Exit mobile version