الخردة السورية… شواهد على مآسي الحرب والذاكرة الممزقة

في شوارع المدن السورية التي أنهكتها الحرب ظهرت مشاهد جديدة تعكس تحولاً في الحياة اليومية للأهالي، حيث انتشرت أسواق الخردة وتحولت إلى أماكن تروي حكايات الدمار وتوثقها بطريقة غير مباشرة.

لم تعد المخلفات الحديدية والمعدنية مجرد “نفايات”، بل أصبحت مصدر رزق للعشرات، وربما المئات، ممّن وجدوا في الحرب فرصة غير متوقعة لكسب العيش.  

فمن بقايا الدبابات المدمرة إلى شظايا القنابل وحطام المنازل، تحولت هذه الأسواق إلى “أرشيف شعبي” للحرب يسجل تفاصيل المرحلة بأسلوب مادي ملموس، إذ إن كل قطعة حديد مشوّهة أو قذيفة فارغة تحمل في طيّاتها شهادات صامتة على معارك دارت وبيوت دُمّرت، وأصبحت اليوم سلعة تُباع وتُشترى في أسواق الخردة. 

في إحدى ضواحي بلدة مشهد روحين  في ريف إدلب الشمالي (شمال غرب)، يقف محمد النجار (45 سنة) أمام كومة من الحديد المشوّه، يفرزها بحرص قبل بيعها لتجار كبار. ويقول لـ”العربي الجديد”: “هذه القطعة قد تكون جزءاً من صاروخ، وتلك من هيكل مدرّعة، كل شيء هنا له قصة، لكننا نبيع القصة بمبلغ زهيد”.

ويضيف محمد، الذي يعمل في جمع المعادن منذ أكثر من عشر سنوات: “تركت الحرب خلفها جبالاً من الخردة، وأصبحت مصدر رزق للكثيرين ممّن فقدوا أعمالهم”. ويشير إلى أن “سعر الحديد يعتمد على نوعيته، فبعض القطع تأتي من أسلحة أو عربات عسكرية مدمرة، وتكون أثمن من غيرها”.

ويتحول البحث عن لقمة العيش في مناطق النزاع إلى مغامرة بالموت، حيث تُختزل حياة الكثيرين في سباق محفوف بالمخاطر بين الجوع والرصاص. فخلف سوق الخردة الذي يبدو عادياً، تُخفي كل قطعة معروضة قصة مأساوية لأشخاص أجبرتهم الحاجة على استخراجها من تحت الأنقاض، أو تفكيك ألغام لم تنفجر بعد، أو تجميع بقايا أسلحة قاتلة.

وإذ لا توجد إحصائيات دقيقة لعدد القتلى والجرحى خلال عمليات جمع الخردة، لكن الروايات المحلية تؤكد أن الإصابات تحدث بشكل شبه يومي.

وتقول سعاد الجبين (32 سنة)، وهي أم لثلاثة أطفال، بينما تفرز قطعاً معدنية من بين الحطام: “قبل شهر، انفجرت ذخيرة في وجه جارنا حين كان يحاول بيعها، مات على الفور، نعرف أننا نلعب بالنار، لكن كيف نُطعم أولادنا؟ هنا إما أن تموت جوعاً أو تأكل الموت لقمة لقمة”.

وتردف بالقول لـ”العربي الجديد”: “لو وجدنا عملاً آخر، لن ننظر إلى هذه القطع المُميتة، لكن من سيساعدنا، فالحرب طحنت الكثير من عمرنا، ولا بد من المخاطرة للعيش الكريم”.

من جهته، يوضح سليمان العلي، أحد تجار الخردة في المنطقة، لـ”العربي الجديد”، أن “هناك طلباً متزايداً على هذه المواد، خصوصاً من المصانع التي تعيد تدويرها لصناعات جديدة”، ويستدرك بالقول: “الربح قليل، والمخاطر كبيرة، فبعض القطع قد تكون متفجرة أو تحتوي على مواد خطرة”.

ويضيف: “بعض الزبائن يأتون بحثاً عن قطع غيار لآلياتهم المتضررة، وآخرون يبحثون عن أي شيء قابل للاستخدام، حتى إن بعض الأدوات المنزلية التي نجت من القصف تعود إلى الخدمة بعد إصلاحها، ويشتريها آخرون بوصفها تذكاراً أو دليلاً على ما حدث”.

ويتابع: “أحياناً نجد بين الحطام أغراضاً شخصية، من صور أو كتب أو غيرها، لكن لا أحد يعيدها لأصحابها، فالكل مشغول بالبحث عن لقمة العيش”.

لا يقتصر هذا الأرشيف المعدني على مسألة البيع والشراء، بل صار شاهداً على تحولات المجتمع السوري، وباتت الذاكرة الجماعية تُقاس بأكوام من الخردة بدلاً من الصور والوثائق.

انتشرت أسواق الخردة في مناطق سورية عدة، مثل ريف حلب ودرعا وإدلب وحمص، حيث يعتمد سكان محليون على جمع المعادن من تحت الأنقاض لبيعها، بعض المواد يُعاد تدويرها محلياً،

بينما يُصدّر الجزء الأكبر إلى تركيا أو العراق ليدخل في صناعات جديدة، خصوصاً النحاس والألمنيوم، حيث تُصهر هذه المعادن ويُعاد تصنيعها، ثم تعود إلى سورية بهيئة منتجات جديدة بأسعار أعلى.

يقول الباحث الاجتماعي أحمد الشيخ: “هذه الأسواق هي ذاكرة الحرب المفتوحة، عندما ترى أبواب المنازل المحروقة أو قطع الأسلحة المعطلة معروضة للبيع، فأنت أمام متحف مفتوح يروي ما لم تورده التقارير الإعلامي. فهذه السلسلة الاقتصادية القائمة على الموت تُظهر كيف يحوّل الصراع البشر إلى وقود لمحركٍ، حيث يدفع الأكثر فقراً فاتورة الدم، بينما يجني الأقوى الأرباح”.

ويضيف لـ”العربي الجديد”، أن هذه المعروضات ليست مجرد سلع مستعملة، بل هي شواهد حية على معاناة إنسانية ومآسٍ لم تُوثق بالصورة الكافية، ما يجعل السوق سجلاً تاريخياً شعبياً يعكس فصولاً من الصراع، بعيداً عن الروايات الرسمية.  

ويوضح الشيخ أن هذه الأسواق الشعبية ليست ظاهرة جديدة، بل هي نتاج طبيعي للحروب التي تترك خلفها كمّاً هائلاً من الحطام المادي والذاكرة الممزّقة. لذلك، فإنّ تحوّل الأشياء من أدوات عنف أو حياة يومية إلى سلع معروضة للبيع يُظهر قدرة المجتمعات على “إعادة تدوير المأساة” بطريقة تكشف مرونة الأهالي وتكيّفهم مع الظروف القاسية.

ويشير إلى أن بعض هذه الأسواق، رغم طابعها التجاري، تتحول إلى فضاءات للحداد الجماعي غير المُعلن. فشراء قطعة سلاح معطلة أو باب منزل محطم قد يكون محاولة من الأهالي للتواصل مع ذكرياتهم أو حتى لمحوها. وهنا يصبح السوق “أرشيفاً شفوياً” تُروى فيه القصص بين البائع والمشتري، بعيداً عن الأضواء. 

ويبيّن الشيخ أن الإعلام غالباً ما يغطي الحرب بلغة الأرقام والاستراتيجيات، متناسياً التفاصيل الصغيرة التي تحمل أعظم الدلالات. أما هذه الأسواق، فتعيد الاعتبار للأشياء المهمشة، كحذاء طفل أو جهاز منزلي محترق، لتصبح وثائق ملموسة تفضح فظاعة الحرب أكثر من أي تقرير.

ومع بدء عمليات إعادة الإعمار في بعض المناطق، يرى الشيخ أن “أسواق الخردة ستتراجع مع نضوب مصادرها، لكنها قد تتحول إلى تجارة أكثر تنظيماً، خصوصاً مع الحاجة إلى إعادة تدوير المواد في إعادة البناء”.

ويتابع: “لكن حتى الآن، لا تزال هذه الأسواق جزءاً من المشهد اليومي، حيث تمثّل تذكيراً صارخاً بأن الحرب قد تضع أوزارها، لكن آثارها تبقى طويلة الأمد”.

العربي الجديد- هاديا المنصور

Exit mobile version