
في الوقت الذي تتجه فيه سوريا لإعادة هيكلة اقتصادها ومواجهة تحديات ما بعد الحرب والعقوبات، تعود إلى الواجهة واحدة من أكثر القضايا حساسية وتأثيراً على المواطنين والحكومة على حدّ سواء: “ضريبة البيوع العقارية”.
ورغم أن هذا الملف يبدو بسيطاً في ظاهره، إلا أنه ينطوي على تعقيدات قانونية واقتصادية وإدارية عميقة، تفرض نفسها على أي نقاش إصلاحي جاد في السياسات المالية العامة.
إصلاح أم عبء جديد؟
كل ذلك يدفع إلى طرح تساؤلات جوهرية لا بد من مواجهتها بجرأة ووضوح: هل يمكن لضريبة العقارات في سوريا أن تكون أداة للعدالة الاجتماعية دون أن تتحول إلى عبء يُثقل كاهل المواطن؟.
هل يمكن تحقيق توازن بين حق الدولة في تحصيل إيرادات ضريبية عادلة وبين الحفاظ على نشاط السوق العقارية وجذب الاستثمار؟.
وهل يستطيع النظام الضريبي العقاري أن يواكب واقع السوق بتعقيداته واختلافاته اليومية، أم يبقى أسير التقديرات القديمة والقرارات المجتزأة؟.
أسئلة باتت ملحّة في ضوء الجهود التي تبذلها لجنة الإصلاح الضريبي، وهي تحاول السير بين ألغام التقييم العقاري، والتهرب الضريبي، والعقود غير النظامية، في مشهد تتشابك فيه اعتبارات القانون مع الاقتصاد، والمصالح الفردية مع مقتضيات السيادة المالية.
ولأن الضرائب ليست فقط جباية، بل انعكاس مباشر لعدالة الدولة وقدرتها على التنظيم، فإن قضية ضريبة البيوع العقارية تتجاوز الإجراءات الشكلية، وتغوص عميقاً في البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبلاد، من هنا، كان لا بدّ من فتح هذا الملف على مصراعيه، والاستماع إلى أهل القانون والخبرة لتبيان ما يجري خلف الأرقام والنسب.
تقييم عقاري غامض ومعايير قديمة
في هذا السياق، تحدثت المحامية نادين غازي عن طبيعة النظام الضريبي في سوريا، فشبّهت القوانين الضريبية بجذور شجرة كبيرة: كلما كانت متوازنة وفعالة، استطاعت أن تدعم الاقتصاد، وأن توفّر للمواطن بيئة أفضل وأقل صدمات.
وأضافت إن ضريبة البيوع العقارية ليست تفصيلاً صغيراً في هذه المنظومة، بل هي ملف جوهري، تُبنى عليه الثقة بين الدولة والمجتمع، ويشكّل اختباراً دقيقاً لعدالة النظام الضريبي ككل.
وأشارت غازي في حديث خاص لصحيفة الثورة إلى أن لجنة الإصلاح الضريبي تُعد حجر الزاوية في عملية تطوير نظام ضريبي عادل ومتكامل، وأن ملف البيوع العقارية رغم بساطته الظاهرية، يحمل في طياته الكثير من التحديات والتعقيدات، فالمشكلة لا تتعلق فقط بالتقدير المالي للعقارات، بل تتقاطع فيها عناصر متعددة اقتصادية، وقانونية، وإدارية، في ظل غياب معايير دقيقة وعصرية للتقييم.
وبحسب غازي، فإن أولى تلك التعقيدات تكمن في غياب أسعار سوق دقيقة، ففي الواقع، تختلف القيم العقارية بشكل حاد تبعاً للموقع الجغرافي، والحالة السياسية، وحجم الطلب، ما يجعل الاعتماد على مؤشرات قديمة أو تقديرات عامة أمراً غير منصف، فالجهات الرسمية كثيراً ما تستند إلى بيانات لا تعكس التغيرات الحقيقية في السوق، ما يؤدي إلى فجوة واسعة بين السعر المصرح به والسعر الفعلي، وهو ما ينسحب مباشرة على العدالة الضريبية.
يتغذى على القوانين الضعيفة
من زاوية أخرى، لفتت المحامية غازي إلى التفاوت الكبير بين العقارات نفسها، والذي يصعّب من إمكانية تطبيق معيار ثابت، فعقار سكني متقادم في حي شعبي لا يمكن أن يخضع لنفس المعايير التي تُطبّق على فيلا حديثة في حي راقٍ، غير أن الواقع القانوني يقول غير ذلك، إذ كثيراً ما تُعامل هذه العقارات ضمن نفس المنظومة الضريبية، ما يضرب جوهر العدالة، ويُشعر المكلفين بوجود غبن لا يمكن تبريره.
إلى جانب هذه الفروقات، أشارت إلى تأثيرات تقلبات سعر الصرف والتصميم الاقتصادي العام، مؤكدة على أن التغيرات الاقتصادية الحادة، مثل التضخم وارتفاع الأسعار وتراجع سعر صرف الليرة، تؤثر بشكل مباشر على القيمة الحقيقية لأي عقار، ومع ذلك، فإن التقييم الضريبي يبقى جامداً أو محدود التحديث، ما يخلق فارقاً زمنياً وقيمياً بين الواقع المالي والتقييم الإداري.
لكن التحديات لا تقف عند حد التقييم، فهناك أيضاً ما وصفته غازي بـ”المعضلات السلوكية والقانونية” التي تمارس على أرض الواقع، فقد بيّنت أن بعض المتعاملين في السوق العقارية يفضّلون إبرام عقود بيع غير رسمية، أي خارج السجل العقاري، بهدف التهرب من الرسوم والضرائب، ما يؤدي إلى تقليص القاعدة الضريبية للدولة، ويجعل من عملية المحاسبة والتحصيل أمراً بالغ الصعوبة.
وأشارت إلى أن التهرب الضريبي لا يعود فقط إلى نية التلاعب، بل إن ضعف الموارد البشرية والتقنية في القطاع الضريبي يلعب دوراً مهماً، فقلة عدد المختصين في التقييم العقاري، وغياب التكنولوجيا الحديثة المناسبة، يؤديان إلى ضعف قدرة اللجان الرسمية على تتبع المعاملات أو كشف الثغرات النظامية.
الحل ليس في فرضها بل في توازنها
ووفق غازي، لا يمكن الحديث عن مشكلة ضريبية دون التوقف عند الإطار القانوني نفسه، فالقوانين الحالية بحاجة إلى تحديث مستمر يتماشى مع الواقع العقاري المتغير، كما أن هناك فراغاً تشريعياً يخص المعاملات التي تتم خارج المنظومة الرسمية، ما يسمح بالتحايل، سواء عبر تخفيض السعر المصرّح به، أو استخدام وكالات مزورة، أو عدم الإفصاح عن القيمة الحقيقية للبيع.
وترى المحامية غازي أن الحل لا يكون في فرض ضرائب عشوائية أو متسرعة، بل في تحقيق توازن دقيق بين حقوق الدولة ومصالح المواطن، فالسوق العقارية، كما تصفها، هي القلب النابض للاقتصاد السوري، وهي مخزن القيمة وأحد المحركات الحيوية للدورة الاقتصادية، لذلك، فإن أي تعديل على النظام الضريبي يجب أن يُبنى على رؤية متكاملة.
وتشير إلى ضرورة ربط الضريبة بالقيمة الحقيقية للعقار، بما يحقق العدالة، دون أن يتحول التقييم إلى أداة قمع ضريبي، وأكدت أن فرض الضرائب لا يجب أن يكون مفاجئاً أو منفصلاً عن الظروف المعيشية، بل يجب أن يكون تدريجياً، منسجماً مع قدرة المواطن، ومراعٍ لوضع السوق، وأضافت أن العدالة الضريبية الحقيقية لن تتحقق دون تقديم حوافز للاستثمار العقاري، وخاصة في المشاريع السكنية والاجتماعية، مع ضرورة تبسيط إجراءات نقل الملكية وتسجيل العقود، لأن التعقيد الإداري يدفع بالكثيرين نحو الحلول غير النظامية.
من البيانات إلى الحوكمة الرقمية
أما الحلول التي اقترحتها غازي فتبدأ بإنشاء قاعدة بيانات وطنية محدثة بشكل دوري، تُظهر الأسعار حسب المناطق، وتراعي الحالة الفيزيائية للعقار، وإنشاء مراكز تقييم مستقلة تضم خبراء من القطاعين العام والخاص، مع إشراك نقابة المهندسين والمحامين وجمعيات العقارات، لضمان النزاهة والشفافية.
وترى غازي أن الدولة مطالبة بتبني نظام ديناميكي لتقدير القيمة الضريبية، يتم تحديثه كل فترة قصيرة، ليواكب تقلبات السوق ويُغلق باب الاجتهادات الفردية، بالإضافة إلى اعتماد الحوكمة الرقمية وتسجيل العقود إلكترونياً عبر نظام موحد مرتبط بالسجل العقاري، للحد من العقود الورقية غير الموثقة.
ومن وجهة نظرها، فإن تطبيق مبدأ الضريبة التصاعدية هو أحد أهم مفاتيح العدالة، حيث تُفرض نسب أعلى على العقارات التجارية أو الفاخرة، ونسب أقل على العقارات ذات الطابع السكني أو الاقتصادي، بما يراعي الفئات الأضعف.
وأكدت غازي على أن الشفافية والثقة هما العنصران الحاسمان، ويجب أن يتم دعم ذلك بنشر مؤشرات سعرية رسمية على منصات حكومية متاحة للجمهور، تتيح للمواطن اتخاذ قرارات واضحة بعيداً عن الغموض والتهرب، وقبل إقرار أي تعديل، من الضروري فتح حوار مجتمعي واسع، يضم الفاعلين في السوق العقارية، من مكاتب عقارية ومحامين ومستثمرين، لأن الإصلاح لا يمكن أن ينجح في بيئة لا يشعر فيها الشركاء بأن صوتهم مسموع.
وفي ختام حديثها، شددت على أن “القضية لا تكمن في سن قوانين جديدة فحسب، بل في صياغتها وتنفيذها بأسلوب عادل وشفاف”، وبالنسبة لغازي، فإن الإصلاح الحقيقي يبدأ من تحديث أدوات التقييم، مروراً بتطوير نسب ضريبية مرنة، وصولاً إلى إشراك جميع الأطراف في رسم السياسات الضريبية، كي يتحول النظام الضريبي من عبء إلى أداة توازن فعّالة تعزز العدالة، وتكرّس الثقة، وتحفّز على الاستثمار والالتزام.
الثورة- جاك وهبه